حجج داحضة











حجج داحضة



إسترسل ابن حجر في تدعيم ما منته به هواجسه إقتصاصا منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية، والاعتذار عنه بما رکبه من الموبقات، وتصحيح خلافته باسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق ص 131 -129 بما تنتهي خلاصة ما لفقه إلي أمرين: أحدهما القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية و نزاع مع خليفة الوقت، إلي ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلفة[1] وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة، وجماعة من البدريين[2] ولفيف من المهاجرين والانصار، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم باحسان، وهو يحسب ان شيئا من هذه التلفيقات يبرر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجلية من الکتاب والسنة، وان الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجا دون أن يلحقه أي حوب کبير، وأسدل عليه ستارا عما اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبوية، ولم يعلم انه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهم أمام النص، ويتهجم علي أحکام الدين الباتة وطقوسه النهائية، بلغ الرجل أن الاجتهاد جائز علي الضد من اجتهاد المجتهدين وما تعقل انه غير جائز علي خلاف الله ورسوله.

وقصاري القول انه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلي قوله أو لحقه به[3] ضابط للاجتهاد يتم طرده وعکسه، وإنما يمطط مع الشهوات والاهواء، فيعذربه خالدبن

[صفحه 341]

الوليد في فجائع بني حنيفة ومالک بن نويرة شيخها الصالح وزعيمها المبرور، وفضائحه من قتل الابرياء والدخول علي حليلة الموئود غيلة وخدعة.[4] .

ويعذر به إبن ملجم[5] المرادي أشقي الآخرين بنص الرسول الامين صلي الله عليه وآله وسلم علي ما انتهکه من حرمة الاسلام، وقتل خليفة الحق وإمام الهدي في محراب طاعة الله الذي اکتنفته الفضائل والفواضل من شتي نواحيه، واحتفت به النفسيات الکريمة جمعاء، وقد قال فيه رسول الله صلي الله عليه وآله ما قاله من کثير طيب عداه الحصر، وکبي عنه الاستقصاء، و هو قبل هذه کلها نفس النبي الطاهرة في الذکر الحکيم.

قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب: أهل السير لا تدافع عنهم ان عليا أمر بقتل قاتله قصاصا ونهي أن يمثل به، ولا خلاف بين أحد من الامة ان ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا علي انه علي صواب وفي ذلک يقول عمروا بن حطان:

يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا


اني افکر فيه ثم أحسبه
أوفي البرية عند الله ميزانا


سنن البيهقي 59 و 58: 8.

ويبرر به عمل أبي الغادية[6] الفزاري قاتل عمار الممدوح علي لسان الله ولسان رسول الله صلي الله عليه وآله، ومن الصحيح الثابت قوله صلي الله عليه وآله له: تقتلک الفئة الباغية. وقد مر في ج 9 ص 21 ويبرأ به ساحة عمرو بن العاصي[7] عن وصمة مکيدة التحکيم وقد خان فيها امة محمد صلي الله عليه وآله وکسر شوکتها وقد قال مولانا أميرالمؤمنين صلوات الله عليه فيه وفي صاحبه الشيخ المخرف:

ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حکمين قد نبذا حکم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع کل واحد منهما هواه، بغير هدي من الله، فحکما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حکمهما، وکلاهما لم يرشد، فبرئ الله

[صفحه 342]

منهما ورسوله وصالح المؤمنين.

ويحبذ به ما ارتکبه يزيد الطاغية[8] من البوائق والطامات من استئصال شأفة النبوة وقتل ذراريها، وسبي عقائلها، التي لم تبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلا أن يلعنه ويتبرأ منه.

ويقدس به أذيال المتقاعدين[9] عن بيعة الامام أميرالمؤمنين عليه السلام علي حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له، فماتوا ميتة جاهلية ولم يعرفوا إمام زمانهم.

وينزه به السابقون الذين أوعزنا إلي سقطاتهم في الدين والشريعة في الجزء 9 و 8 و 7 و 6 بأعذار عنهم لا تقل في الشناعة عن جرائرهم. إلي أمثال هذه مما لا يحصي.

نعم: هناک موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد، فلا يصاخ إلي مفعوله، لوقوف الميول والشهوات سدا دون ذلک، فلا يدرء به التهمة عن المؤلبين علي عثمان وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والانصار، وأعيان المجتهدين، الذين أخذوا الکتاب والسنة من نفس رسول الله صلي الله عليه وآله، فهم عند ابن حزم المبرر لفتکة أشقي مراد باجتهاده المشوم: فساق ملعونون محاربون سافکون دما حراما عمدا[10] وعند ابن تيمية: قوم خوارج مفسدون في الارض، لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة، وأما الساعون في قتله فکلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون[11] وعند ابن کثير: أجلاف أخلاط من الناس، لا شک انهم من جملة المفسدين في الارض، بغاة خارجون علي الامام، جهلة متعنتون خونة ظلمة مفترون[12] وعند ابن حجر: بغاة کاذبون ملعونون معترضون لا فهم لهم بل ولا عقل[13] .

ولو کان للاجتهاد منتوج مقرر فلم لم يتبع في إرجاء أميرالمؤمنين عليه السلام أمر المتهمين بقتل عثمان إلي ما يراه من المصلحة فينتصب للقضاء فيه علي ما يقتضيه الکتاب والسنة

[صفحه 343]

فشنت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفين وکان من ذيولها وقعه الحروريين، فلم يتبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبي، وأقضي الامة بنص من الصادق المصدق، لکنما اتبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله بن عمر في قتله لهرمزان و بنت أبي لؤلؤة وإهدار ذلک الدم المحرم من غير أي حجة قاطعة أو برهنة صحيحة، فلو کان للخليفة مثل ذلک العفو فلم لم يجر حکمه في الآوين إلي مولانا أميرالمؤمنين من المتجمهرين علي عثمان؟ ولم يکن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الامام من حکمه البات، أيعطي دية المقتول من بيت المال لانه اودي به بين جمهرة المسلمين لا يعرف قاتله کما فعله في أربد الفزاري[14] أو أنه يراهم من المجتهدين «وکانوا کذلک» الذين تأولوا أصابوا أو أخطأوا، أو أنه کان يري من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلي ما وراء ما انتابه من المثلات، وما هنالک من إرجاف وتعکير يقلقان السلام والوئام، حتي يتمکن من الحصول علي تدعيم عرش إمرته الحقة المشروعة، فعلي أي من هذه الاقضية الصحيحة کان ينوء الامام عليه السلام به فلا حرج عليه ولا تثريب، لکن سيف البغي الذي شهروه في وجهه أبي للقوم إلا أن يتبع الحق أهوائهم، وماذا نقموا عليه صلوات الله عليه من تلکم المحتملات حتي يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرائها تطايرت الرؤس، وتساقطت الايدي، وارهقت نفوس بريئة، واريقت دماء محترمة، فبأي اجتهاد بادروا إلي الفرقة، وتحملوا أوزارها، ولم تتجل لهم حقيقة الامر ولباب الحق، لکنهم ابتغوا الفتنة، وقلبوا له الامور، ألا في الفتنة سقطوا.

ومن أعجب ما يترائي من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية: انه يبيح سب علي أميرالمؤمنين عليه السلام وسب کل صحابي احتذي مثاله، ويجوز لاي أحد کيف شاء وأراد لعنهم، والوقيعة فيهم، والنيل منهم، في خطب الصلوات، والجمعات، والجماعات، و علي صهوات المنابر، والقنوت بها، والاعلان بذلک في الاندية والمجتمعات، والخلا والملا، ولا يلحق لفاعلها ذم ولا تبعة، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ، وإن کان هو من حثالة الناس، وسفلة الاعراب، وبقايا الاحزاب، البعداء عن العلوم والمعارف.

وأما علي وشيعته فلا حق لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم، والوقيعة في خصمائهم،

[صفحه 344]

ومبلغ إسفافهم إلي هوة الضلالة علي حد قوله تعالي: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم[15] وليس لاحدهم في الاجتهاد في ذلک کله نصيب، ولو کان ضليعا في العلوم کلها، فإن أحد منهم نال من إنسان من اولئک الظالمين فمن الحق ضربه وتأديبه، أو تعذيبه وإقصاءه، أو التنکيل به وقتله، ولا يأبه باجتهاده المؤدي إلي ذلک صوابا أو خطأ، وعلي هذا عمل القوم منذ أول يوم اسس أساس الظلم والجور، وهلم جرا حتي اليوم الحاضر راجع معاجم السيرة والتاريخ فانها نعم الحکم الفصل، وبين يديک کلمة ابن حجر في الصواعق ص 132 قال في لعن معاوية: وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فله فيه اسوة، أي اسوة بالشيخين وعثمان وأکثر الصحابة، فلا يلتفت لذلک، ولا يعول عليه، فانه لم يصدر إلا من قوم حمقي جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم في أي واد هلکوا، فلعنهم الله وخذ لهم، أقبح اللعنة والخذلان، وأقام علي رؤسهم من سيوف اهل السنة، وفي حججهم المؤيدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص اولئک الائمة الاعيان. انتهي.

أتعلم من لعن ابن حجر؟ وإلي من تتوجه هذه القوارص؟ انظر إلي حديث لعن رسول الله صلي الله عليه وآله معاوية، وأحاديث لعن علي أميرالمؤمنين، وقنوته بذلک في صلواته، و لعن ابن عباس وعمار ومحمد بن أبي بکر، ودعاء ام المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة، و آخرين من الصحابة، إقرأوا حکم.


صفحه 341، 342، 343، 344.








  1. قال ابن مزاحم: اصيب بصفين من اهل الشام خمسة وأربعون ألفا، واصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا. کتاب صفين ص 643، وذکره ابن کثير في تاريخه 274:7 وقال: قاله غير واحد، وزاد أبوالحسن بن البراء: وکان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريا. وعلي ما ذکر من عدد القتلي ذکره ابن الشحنة في روضة المناظر هامش الکامل 191:3، وصاحب تاريخ الخميس في ج 277:2.
  2. راجع ما مر في الجزء التاسع ص 359 ط 1.
  3. نظراء الشيخ علي القاري، والخفاجي في شرحي الشفا 166:3.
  4. راجع الجزء السابع ص 168 -156 ط 1.
  5. راجع الجزء الاول ص 323 ط 2.
  6. راجع الجزء الخامس ص 328 ط 2.
  7. راجع تاريخ ابن کثير 283:7.
  8. راجع تاريخ ابن کثير 223:8، ج 10:13 فيه قول أبي الخير القزويني: انه امام مجتهد.
  9. راجع مستدرک الحاکم ج 115:3 تا 118.
  10. الفصل لابن حزم 161:4.
  11. منهاج السنة 206 و 189: 3.
  12. تاريخ ابن کثير 187 و 186 و 176: 7.
  13. الصواعق المحرقة ص 129 و 68 و 67.
  14. راجع کتاب صفين ص 106، شرح ابن ابي الحديد 279:1.
  15. سورة النساء: 148.