التحكيم لماذا؟











التحکيم لماذا؟



إن آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدء الامر، وإن تستر بها آونة علي الاغبياء، وتترس بطلب دم عثمان دون نيل الامنية بين القوم آونة اخري حين سولت له نفسه أن يستحوذ علي إمرة المسلمين بالدسائس، فأول تلکم البذرة أو القنطرة الاولي الطلب بدم عثمان، وفي آخر الحيل الدعوة إلي تحکيم کتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم، وکان مولانا امير المؤمنين عليه السلام يدعوهم- منذ أول ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة-[1] إلي التحکيم الصحيح الذي لا يعد ومحکمات القرآن ونصوصه، لولا أن ابن النابغة وصاحبه يسيران علي الامة غدرا ومکرا، وعلي إمام الحق خيانة وظلما، غير ما يتظاهران به من تحکيم الکتاب فوقع هنالک ما وقع من لوائح الفتنة، ومظاهر العدوان، بين دهاء ابن العاصي وحمارية الاشعري، بين قول أبي موسي لابن العاصي: لا وفقک الله غدرت وفجرت،[2] انما مثلک کمثل الکلب إن تحمل عليه يلهث أو تترکه يلهث، وبين قول ابن العاصي لابي موسي: وإنک مثلک مثل الحمار يحمل أسفارا[3] فوئد الحق، واودي بالحقيقة، بين شيطان

[صفحه 337]

وغبي، فکان من المتسالم عليه بين الفريقين إن الخلافة هي المتوخاة لکل منهما، ولذلک انعقد التحکيم، وبه کان يلهج خطباء العراق وامرائهم عند النصح للاشعري، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحق، وبلج الاصلاح. فمن قول ابن عباس للاشعري:

انه قد ضم إليک داهية العرب: وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقک علي باطله تدرک حاجتک منه، وإن يطمع باطله في حقک يدرک حاجته منک، واعلم يا أبا موسي أن معاوية طليق الاسلام، وإن أباه رأس الاحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لک أن عمر وعثمان إستعملاه فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي، ويوجره[4] ما يکره ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أکثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم: أن لعمرو مع کل شيئ يسرک خبا يسوءک، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بکر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدي، وانه لم يقاتل إلا العاصين والناکثين.

(شرح ابن ابي الحديد 195:1)

ومن قول الاحنف بن قيس له: ادع القوم إلي طاعة علي. فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبوا، ويختار من قريش الشام من أحبوا.[5] .

ومن قول شريح بن هانئ للاشعري: إنه لا بقاء لاهل العراق إن ملکهم معاوية، ولا بأس علي أهل الشام إن ملکهم علي، فانظر في ذلک نظر من يعرف هذا الامر حقا، وقد کانت منک تثبيطة أيام الکوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يکن الظن بک يقينا، والرجاء منک يأسا، ثم قال:


أبا موسي رميت بشر خصم
فلا تضع العراق فدتک نفسي


واعط الحق شامهم وخذه
فإن اليوم في مهل کأمس


وإن غدا يجئ بما عليه
کذاک الدهر من سعد ونحس

[صفحه 338]

ولا يخدعک عمرو إن عمرا
عدو الله مطلع کل شمس


له خدع يحار العقل منها
مموهة مزخرفة بلبس


فلا تجعل معاوية بن حرب
کشيخ في الحوادث غير نکس


هداه الله للاسلام فردا
سوي عرس النبي، وأي عرس؟[6] .


ومن قول معاوية لعمرو بن العاص: إن خوفک العراق فخوفه بالشام، وإن خوفک مصر فخوفه باليمن، وإن خوفک عليا فخوفه بمعاوية.

ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية: أرأيت إن ذکر عليا وجاءنا بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه، ما أقول؟ فقال معاوية: قال ما تريد وتري. (الامامة والسياسة 99:1، وفي ط 113).

قال الاميني: هذه صفة الحال، ومصاص الحقيقة، ومن نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب کل منهما الخلافة، وإثباتها لصاحبه، ودونه تحقق الخلع والتثبيت، وعليه وقع التحکيم حقا أو باطلا، ولم يکن السامع يجد هنالک قط من دم عثمان رکزا، ولا عن ثاراته ذکرا، وإنما تطامنت النفوس علي تحري الخلافة فحسب، و لقصر النزاع علي الخلافة محيت إمرة المؤمنين عند ذکر اسم مولانا الامام عليه السلام عن صحيفة الصلح.

فلقد تمخضت لک صورة الواقع من امنية معاوية الباطلة في کل من هذه العناوين الستة المذکورة المدرجة تحت:

1- حديث الوفود.

2- أنباء في طيات الکتب.

3- تصريح لا تلويح.

4- فکرة معاوية لها قدم.

5- مناظرات وکلم.

6- ألتحکيم لماذا.

[صفحه 339]

فأين يقع منها کلمة ابن حجر وحکمه البات بقصر النزاع بين الامام عليه السلام وبين ابن هند علي طلب ثارات عثمان لا الخلافة؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفا ضحية لشهواته ومطامعه، وهو يحسب انه لا يوافيه مناقش في الحساب، أو ناظر إلي صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان، وکأنه لا يخجل إن جاثاه منقب، أو واقفه مجادل، کما أنه لا يتحاشي عن موقف الحساب يوم القيامة، وان الله سبحانه لبالمرصاد.

ونختم البحث بکلمة الباقلاني، قال في " التمهيد " ص 231: إن عقد الامامة لرجل علي أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز، لانه متعبد في ذلک باجتهاده والعمل علي رأيه، وقد يؤدي الامام اجتهاده إلي أن لا يقتل الجماعة بالواحد، وذلک رأي کثير من الفقهاء، وقد يکون ممن يري ذلک، ثم يرجع عنه إلي اجتهاد ثان، فعقد الامر له علي ألا يقيم الحد إلا علي مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممن عقده ورضي به.

وعلي أنه إذا ثبت أن عليا ممن يري قتل الجماعة بالواحد، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة علي القتلة بأعيانهم، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليهم، ولا يکونوا في حکم من يعتقد انهم بغاة عليه، وممن لا يجب استخراج حق لهم، دون أن يدخلوا في الطاعة، ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدي الامام اجتهاده إلي أن قتل قتلة عثمان لا يؤدي إلي هرج عظيم، وفساد شديد، قد يکون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه، وإن تأخير إقامة الحد إلي وقت إمکانه، وتقصي الحق فيه، أولي وأصلح للامة، وألم لشعثهم، وأنفي للفساد والتهمة عنهم.

هذه امور کلها تلزم الامام في إقامة الحدود، واستخراج الحقوق، وليس لاحد أن يعقد الامامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حد من حدود الله، والعمل فيه برأي الرعية، ولا للمعقود له أن يدخل في الامامة بهذا الشرط، فوجب اطراح هذه الرواية[7] لو صحت، ولو کانا قد بايعا علي هذه الشريطة فقبل هو ذلک لکان هذا

[صفحه 340]

خطأ منهم، غير انه لم يکن بقادح في صحة امامته، لان العقد له قد تقدم هذا العقد الثاني، وهذه الشريطة لا معتبر بها، لان الغلط في هذا من الامام الثابتة امامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. ألکلام.


صفحه 337، 338، 339، 340.








  1. راجع ما أسلفناه في هذا الجزء صفحة 276.
  2. وفي لفظ ابن قتيبة: مالک؟ عليک لعنة الله، ما انت الا کمثل الکلب. وفي لفظ ابن عبد ربه: لعنک الله، فان مثلک کمثل الکلب.
  3. الامامة والسياسة 115:1، کتاب صفين ص 628 ط مصر، العقد الفريد 291:2، تاريخ الطبري 40:6، مروج الذهب 22:2، کامل الاثير 144:3، شرح ابن ابي الحديد 198:1.
  4. وجره الدواء أو جره اياه: جعله في فيه. أوجره الرمح، طعنه. ووجره: أسمعه ما يکره.
  5. الامامة والسياسة 99:1، وفي ط 112، نهاية الارب 239:7، شرح ابن ابي الحديد 196:1.
  6. الامامة والسياسة 99:1، وفي ط 113، کتاب صفين 615 و 614 ط مصر، شرح ابن أبي الحديد 195:1.
  7. يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم: بايعناک علي أن تقتل قتلة عثمان.