مناظرات وكلم











مناظرات وکلم



1- قال أبوعمر في الاستيعاب[1] کان عبدالرحمن بن غنم- الصحابي- من أفقه أهل الشام وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام، وکانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذا انصرفا من عند علي رضي الله عنه رسولين لمعاوية، وکان مما قال لهما: عجبا منکما، کيف جاز عليکما ما جئتما به، تدعوان عليا إلي أن يجعلها شوري، وقد علمتما انه قد بايعه المهاجرون والانصار وأهل الحجاز والعراق، وإن من رضيه خير ممن کرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه؟ وأي مدخل لمعاوية في الشوري وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو أبوه من رؤس الاحزاب. فندما علي مسيرهما وتابا منه بين يديه رحمة الله عليهم.

2- خرج رجل من أهل الشام- يوم صفين- ينادي بين الصفين: يا أبا الحسن يا علي أبرز إلي. فخرج إليه علي حتي إذا اختلف أعناق دابتهما بين الصفين فقال: يا علي إن لک قدما في الاسلام وهجرة، فهل لک في أمر أعرضه عليک يکون فيه حقن هذه الدماء، وتأخير هذه الحروب حتي تري من رأيک؟ فقال له علي: وماذاک؟ قال: ترجع إلي عراقک، فنخلي بينک وبين العراق، ونرجع إلي شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا. فقال له علي: لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة، ولقد أهمني هذا الامر وأسهرني، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الکفر بما أنزل الله علي محمد صلي الله عليه وسلم، إن الله تبارک وتعالي لم يرض من أوليائه أن يعصي في الارض وهم سکوت مذعنون، لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنکر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الاغلال في جهنم.[2] .

3- قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة: يا جعدة إنا والله ما نزعم ان معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان، ولکن معاوية أحق بالشام، لرضا أهلها به،

[صفحه 332]

فاعفوا لنا عنها، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال، ولا بالعراق من له مثل جد علي في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منکم لصاحبکم، وما أقبح بعلي أن يکون في قلوب المسلمين أولي الناس بالناس حتي إذا أصاب سلطانا أفني العرب.

فقال جعدة: أما فضل علي علي معاوية فهذا ما لا يختلف فيه إثنان، وأما رضاکم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل، وأما قولک: انه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجد من معاوية، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي، فهکذا ينبغي أن يکون، مضي بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شکه، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل. ألحديث. کتاب صفين ص 529 ط مصر، شرح ابن أبي الحديد 301:2.

4- من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين: إن معاوية ادعي ما ليس له، ونازع الامر أهله، ومن ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليکم بالاعراب والاحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الامر، وزادهم رجسا إلي رجسهم.

تاريخ الطبري 9:6، کتاب صفين لابن مزاحم ص 263، کامل ابن الاثير 128:3، شرح ابن أبي الحديد 483:1.

5- من کلمة لعبدالله أيضا يخاطب بها أميرالمؤمنين عليه السلام:

يا أميرالمؤمنين إن القوم لو کانوا الله يريدون، أو لله يعملون، ما خالفونا، ولکن القوم إنما يقاتلون فرارا من الاسوة، وحبا للاثرة، وضنا بسلطانهم، وکرها لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلي إحن في أنفسهم، وعداوة يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها يا أميرالمؤمنين بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثم التفت إلي الناس فقال: کيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجده عتبة في موقف واحد؟ والله ما أظن أن يفعلوا.

6- من خطبة ليزيد بن قيس الارحبي بصفين: إن هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا علي إقامة دين رأونا ضيعناه، ولا علي إحياء حق رأونا أمتناه، ولا يقاتلوننا إلا لهذه الدنيا ليکونوا فيها جبابرة وملوکا. إلي آخر ما مر في ص 59.

7- من کتاب لسعد بن أبي وقاص إلي معاوية:

[صفحه 333]

أما بعد: فإن أهل الشوري ليس منهم أحد أحق بها من صاحبه، غير أن عليا کان من السابقة، ولم يکن فينا ما فيه، فشارکنا في محاسننا، ولم نشارکه في محاسنه، وکان أحقنا کلنا بالخلافة، ولکن مقادير الله تعالي التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدره، وقد علمنا انه أحق بها منا، ولکن لم يکن بد من الکلام في ذلک والتشاجر، فدع ذا وأما أمرک يا معاوية فإنه أمر کرهنا أوله وآخره، وأما طلحة، والزبير فلو لزما بيعتهما لکان خيرا لهما، والله تعالي يغفر لعائشة ام المؤمنين «الامامة والسياسة 86:1«.

8- من کتاب لمحمد بن مسلمة إلي معاوية:

ولعمري يا معاوية ما طلبت إلا الدنيا، ولا اتبعت إلا الهوي، ولئن کنت نصرت عثمان ميتا، لقد خذلته حيا، ونحن ومن قبلنا من المهاجرين والانصار أولي بالصواب. إلامامة والسياسة 87:1.

إلي کتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من کتابنا.

قال الاميني: هذه کلمات تامات ممن کانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله، وقد عرفوا نفسياته ومغازيه منذ عرفوه وثنيا ومستسلما حتي وقفوا عليه من کثب، وقد تعالي به الوقت بل تسافل حتي طفق يطمع مثله في الخلافة الاسلامية، وبينهما ذاک البون الشاسع، وخلال الفضل التي تخلي عنها، والملکات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أکفأته عنها بخفي حنين، وهؤلاء وإن اختلفت کلماتهم لکنها ترمي إلي مغزي واحد من عدم کفائة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين، أو ما يتحراه من حکومة الشام خلافة مختذلة عن الخلافة الاسلامية الکبري المنعقدة لاهلها يومئذ أو انه لا يتحري إلا إمرة مغتصبة وما لها من مفعول أثرة وثراء، أو انه منبعث عن ضغائن وإحن مما أصاب أهله وذويه من الامام عليه السلام فقتلو تقتيلا تحت راية الاوثان وظهر أمر الله وهم کارهون.

ولم يکن لمعاوية وأصحابه مرمي غير الاسفاف إلي هذه الهوات السحيقة مما خفي علي هؤلاء الحضور، واستکشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني، الحاملون ولاء ذلک البيت الساقط، وأنت تري انه لا يقام في سوق الدين لشيئ منها أي قيمة، ولا

[صفحه 334]

تکون لها أي عبرة، فدحضا لدعوة الباطل، وسحقا لشره الاستعباد.

وکان ابن هند الجاهل بنفسه- والانسان علي نفسه بصيرة- بري نفسه أحق بالخلافة من عمر کما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه[3] عن عبدالله بن عمر قال: دخلت علي حفصة ونسوانها تنطف قلت: قد کان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الامر شيئ. فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونک وأخشي أن يکون في احتباسک عنهم فرقة. فلم تدعه حتي ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية[4] قال: من يريد أن يتکلم في هذا الامر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال خبيب بن مسلمة فهلا أجبته؟ قال عبدالله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الامر منک من قاتلک وأباک علي الاسلام. فخشيت أن أقول کلمة تفرق بين الجمع وتسفک الدم ويحمل عني غير ذلک فذکرت ما أعد الله في الجنان. قال خبيب: حفظت وعصمت؟

أين کان ابن عمر عن هذه العقلية التي حفظ بها وعصم يوم تقاعس عن بيعة أميرالمؤمنين الامام الحق بعد اجماع الامة المسلمة عليها، ولم يخش أن يقول کلمة تفرق بين الجمع وتسفک الدم؟ ففرق الجمع، وشق عصا المسلمين، وسفکت دماء زکية، والله من ورائهم حسيب.

ولم تکن الخلافة فحسب هي قصوي الغاية المتوخاة لمعاوية بل ينبأنا التاريخ عن انه لم يک يتحاشا عن أن يعرفه الناس بالرسالة ويقبلونه نبيا بعد نبي العظمة، روي ابن جرير الطبري بالاسناد: ان عمرو بن العاص اوفد إلي معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو: انظروا إذا دخلتم علي ابن هند فلا سلموا عليه بالخلافة فانه أعظم لکم في عينه، وصغروه ما استطعتم، فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه: اني کأني أعرف ابن النابغة وقد صغر امري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم الا وقد همته نفسه بالتلف، فکان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له: ابن الخياط. فدخل وقد تعتع فقال:السلام عليک يا رسول الله!

[صفحه 335]

فتتابع القوم علي ذلک، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنکم الله نهيتکم أن تسلموا عليه بالامارة فسلمتم عليه بالنبوة.[5] .

ولعل هذه الواقعة هي بذرة تلک النزعة الفاسدة التي کانت عند جمع ممن تولي معاوية بعد وفاته. قال شمس الدين النياء المقدسي[6] في کتاب «احسن التقاسيم في معرفة الاقالم» ص 399: وفي أهل اصفهان بله وغلو في معاوية ووصف لي رجل بالزهد والتعبد فقصدته وترکت القافلة خلفي وبت عنده تلک الليلة وجعلت اسائله إلي أن قلت: ما قولک في (الصاحب)[7] فجعل يلعنه ثم قال: إنه أتانا بمذهب لا نعرفه. قلت وما هو؟ قال: يقول: معاوية لم يکن مرسلا: قلت: وما تقول انت؟ قال: أقول کما قال الله عزوجل: لا نفرق بين أحد من رسله، أبوبکر کان مرسلا، وعمر کان مرسلا، حتي ذکر الاربعة ثم قال: ومعاوية کان مرسلا. قلت: لا تفعل، أما الاربعة فکانوا خلفاء ومعاوية کان ملکا، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: الخلافة بعدي إلي ثلاثين سنة ثم تکون ملکا. فجعل يشنع علي وأصبح يقول للناس: هذا رجل رافضي فلو لم تدرک القافلة لبطشوا بي، ولهم في هذا الباب حکايات کثيرة.

هب ان القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلي ما يقولون لکن هذا الذي يدعي الخلافة عن رسول الله بملکه العضوض هلا کان عليه أن يردعهم عن ذلک التسليم المحظور؟ أو يسکن روعتهم فيرجعوا إلي حق المقام لولا ان معاوية لم يکن له في مبوأه ذلک ضالة إلا الحصول أعلي الملوکية الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة؟ لانه لا يبلغ امنيته إلا بها فلا يبالي أسلم عليه بالربوبية أو الرسالة أو إمرة المؤمنين وقد حاول ارغام ابن النابغة فيما توسمه منه في مقتبله ذلک، فبلغ ما أراد فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لامره الامر أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.

يأنس ابن هند بذلک الخطاب الباطل، ولم يشنع علي من يسلم عليه بالرسالة، غير انه لم يرقه أن يذکر نبي الاسلام بالرسالة، ويزريه بذکر اسمه وهو يعلم أن

[صفحه 336]

العظمة لا تفارقه، والرسالة تلازمه، ذکر الحفاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي[8] ان معاوية قال: أرأيت هاشما؟ قال: نعم والله طوالا حسن الوجه يقال: ان بين عينيه برکة. قال: فهل رأيت امية؟ قال نعم رأيته رجلا قصيرا أعمي يقال: إن في وجهه شرا أو شؤما. قال: أفرأيت محمدا؟ قال: ومن محمد؟ قال: رسول الله. قال: أفلا فخمت کما فخمه الله فقلت رسول الله؟[9] .


صفحه 332، 333، 334، 335، 336.








  1. کتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 542، شرح ابن ابي الحديد 183:1.
  2. راجع ما مر في هذا الجزء.
  3. في کتاب المغازي، باب غزوة الخندق ج 141:6.
  4. قال ابن الجوزي: کان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. راجع فتح الباري 323:7.
  5. راجع تاريخ الطبري 184:6، تاريخ ابن کثير 140:8.
  6. ابو عبدالله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة 336، والمتوفي نحو 380.
  7. هو الوزير الشيعي الوحيد الصاحب بن عباد المترجم له في الجزء الرابع ص 42 ط 2.
  8. احد المعمرين قد اتي عليه من السن يوم استقدمه معاوية ستون وثلثمائة سنة ترجمه ابن عساکر في تاريخ الشام، ومترجمو الصحابة، في معاجمهم.
  9. تاريخ ابن عساکر 103:3، اسد الغابة 115:1.