تصريح لا تلويح يعرب عن مرمي ابن هند











تصريح لا تلويح يعرب عن مرمي ابن هند



مر في سالف القول ص 317 ان معاوية قال لجرير: يجعل علي له الشام ومصر جباية، ويکون الامر له بعده، حتي يکتب إليه بالخلافة، وکتب بذلک إليه عليه السلام، وکتب إليه عليه السلام يسأله إقراره علي الشام فکتب إليه علي عليه السلام:

أما بعد: فإن الدنيا حلوة خضرة، ذات زينة وبهجة، لم يصب إليها أحد إلا شغلته بزينتها عما هو أنفع له منها، وبالآخرة امرنا، وعليها حثثنا، فدع يا معاوية ما يفني، واعمل لما يبقي، واحذر الموت الذي إليه مصيرک، والحساب الذي إليه عاقبتک، واعلم أن الله تعالي إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يکره، ووفقه لطاعته، وإذا أراد بعبد سوءا أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة، وبسط له أمله، وعاقه عما فيه صلاحه، وقد وصلني کتابک فوجدت ترمي غير غرضک، وتنشد غير ضالتک، وتخبط في عماية، وتتيه في ضلالة، وتعتصم بغير حجة، وتلوذ بأضعف شبهة.

فأما سؤالک المتارکة والاقرار لک علي الشام، فلو کنت فاعلا ذلک اليوم لفعلته أمس، وأما قولک: إن عمر ولاکه فقد عزل من کان ولاه صاحبه[1] وعزل عثمان من کان عمر ولاه[2] ولم ينصب للناس إمام إلا ليري من صلاح الامة ما قد کان ظهر لمن قبله أو اخفي عنه عيبه، والامر يحدث بعده الامر، ولکل وال رأي واجتهاد.[3] .

وکتب الرجل إليه عليه السلام ثانية- قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة- يسأله إقراره علي

[صفحه 324]

الشام وذلک أن عليا عليه السلام قال: لا ناجزنهم مصبحا. وتناقل الناس کلمته، ففزع أهل الشام لذلک، فقال معاوية: قد رأيت أن اعاود عليا وأسأله إقراري علي الشام، فقد کنت کتبت إليه ذلک فلم يجب إليه[4] ولاکتبن ثانية، فألقي في نفسه الشک والرقة، فکتب اليه.

أما بعد: فإنک لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبک ما بلغت، لم يجنها بعضنا علي بعض، ولئن کنا قد غلبنا علي عقولنا، لقد بقي لنا منها ما نندم به علي ما مضي، ونصلح به ما بقي، وقد کنت سألتک الشام علي أن لا تلزمني لک بيعة وطاعة فأبيت ذلک علي، فأعطاني الله ما منعت، وأنا أدعوک اليوم إلي ما دعوتک إليه أمس، فاني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو، ولا أخاف من الفناء إلا ما تخاف، وقد والله رقت الاجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا علي بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز، ولا يسترق به حر، والسلام.

فأجابه علي عليه السلام:

أما بعد فقد جاءني کتابک تذکر أنک لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبک لم يجنها بعضنا علي بعض، فإني لو قتلت في ذات الله وحييت، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لاعداء الله، وأما قولک: إنه قد بقي من عقولنا ما نندم علي ما مضي فإني ما تنقصت عقلي، ولا ندمت علي فعلي، واما طلبک إلي الشام فإني لم أکن لاعطيک اليوم ما منعتک أمس، وأما قولک: إن الحرب قد أکلت إلا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أکله الحق فإلي الجنة، ومن أکله الباطل فالي النار. الکتاب[5] .

وکتب معاوية إلي ابن عباس:

أما بعد: فإنکم معشر بني هاشم لستم إلي أحد أسرع منکم بالمساءة إلي أنصار ابن عفان حتي أنکم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه، واستعظامهما ما نيل منه،

[صفحه 325]

فإن کان ذلک منافسةزلبني امية في السلطان، فقد وليها عدي وتيم[6] فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة.

وقد وقع من الامر ما قد تري، وأدالت هذه الحرب بعضنا علي بعض حتي استوينا فيها، فما يطعمکم فينا يطعمنا فيکم، وما يؤيسنا منکم يؤيسکم منا، ولقد رجونا غير الذي کان، وخشينا دون ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدکم أمس، ولا غدا بأحد من حدکم اليوم، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملک الشام، فاقنعوا بما في أيديکم من ملک العراق، وأبقوا علي قريش، فانما بقي من رجالها ستة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق. ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو. وأما اللذان بالعراق فأنت وعلي. وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر[7] فإثنان من الستة ناصبان لک، واثنان واقفان فيک، وأنت رأس هذا الجمع، ولو بايع لک الناس بعد عثمان کنا إليک أسرع منا إلي علي.

فکتب إبن عباس إليه:

أما بعد: فقد جاءني کتابک وقرأته، فأما ما ذکرت من سرعتنا بالمساءة إلي أنصار عثمان وکراهتنا لسلطان بني امية، فلعمري لقد أدرکت في عثمان حاجتک حين استنصرک فلم تنصره حتي صرت إلي ما صرت إليه، وبيني وبينک في ذلک ابن عمک وأخو عثمان الوليد بن عقبة، وأما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه، وضيقا خناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملک، فقاتلناهما علي النکث وقاتلناک علي البغي، وأما قولک: إنه لم يبق من قريش إلا ستة فما أکثر رجالها، وأحسن بقيتها، وقد قاتلک من خيارها من قاتلک، ولم يخذلنا إلا من خذلک، وأما إغراؤک إيانا بعدي وتيم، فإن أبا بکر وعمر خير من عثمان کما أن عثمان خير منک، وقد بقي لک منا ما ينسيک ما قبله وتخاف ما بعده، وأما قولک: إنه لو بايعني الناس استقمت، فقد بايع الناس عليا وهو خير مني فلم تستقم له: وما أنت وذکر الخلافة يا معاوية؟ وإنما أنت طليق وابن طليق، والخلافة للمهاجرين الاولين، وليس الطلقاء منها في شيئ، والسلام[8] وفي لفظ ابن قتيبة: فما

[صفحه 326]

أنت والخلافة؟ وأنت طليق الاسلام، وابن رأس الاحزاب، وابن آکلة الاکباد من قتلي بدر.

وخطب معاوية بعد دخوله الکوفة وصلح الامام السبط سلام الله عليه فقال: يا أهل الکوفة أتراني قاتلتکم علي الصلاة والزکاة والحج؟ وقد علمت أنکم تصلون وتزکون وتحجون. ولکنني قاتلتکم لاتأمر عليکم وعلي رقابکم، وقد آتاني الله ذلک وأنتم کارهون، ألا إن کل مال أو دم اصيب في هذه الفتنة فمطلول، وکل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين. شرح ابن أبي الحديد 6:4، تاريخ ابن کثير 131:8 واللفظ للاول.

قال معروف بن خربوذ المکي: بينا عبدالله بن عباس جالس في المسجد ونحن بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس اليه فأعرض عنه ابن عباس فقال له معاوية: مالي أراک معرضا؟ ألست تعلم أني أحق بهذا الامر من ابن عمک؟ قال: لم؟ لانه کان مسلما وکنت کافرا؟ قال: لا، ولکني ابن عم عثمان. قال: فابن عمي خير من ابن عمک. قال: إن عثمان قتل مظلوما. قال: وعندهما ابن عمر فقال ابن عباس: فان هذا والله أحق بالامر منک. فقال معاوية: إن عمر قتله کافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن عباس: ذاک والله أدحض لحجتک. مستدرک الحاکم 467:3.

قال الاميني: إن هذه الکلم لتعطي القارئ دروسا ضافية من تحري معاوية للخلافة لا غيرها من أول يومه، ولم يکن في وسع ابن آکلة الاکباد دفع شيئ مما کتب اليه من ذلک، وانه کان يريد علي فرض قصوره النيل لکل الامنية القناعة ببعضها، فيصفو له ملک الشام ومصر، وللامام عليه السلام ما تحت يده من الحواضر الاسلامية وزرافات الاجناد، عسي أن يتخذ ذلک وسيلة للتوصل إلي بقية الامل في مستقبل أيامه، وکانت هذه القسمة ابتداعا في أمر الخلافة الاسلامية، وتفريقا بين صفوفها، لم تأل إلي سابقة في الدين، ولا أمضاها أهله في دور من الادوار، وانما هي فصمة في الجماعة، وتفريق للطاعة، وتفکيک لعري الاسلام، وتضعيف لقواه، وبيعة عامة تلزم القاصي والداني لا يستثني منها جيل دون جيل، ولا يجوز إنحياز امة عنها دون امة، وإنما هو الخليفة الاخير الذي أوجبت الشريعة قتله کما مر حديثه الصحيح الثابت،

[صفحه 327]

وانه هو معاوية نفسه، فما کان يسع الامام عليه السلام والحالة هذه إلا قتال هذا الطاغية أو يفئ إلي أمر الله.


صفحه 324، 325، 326، 327.








  1. يريد خالد بن الوليد کان ولاه أبوبکر فعزله عمر.
  2. عزل عثمان عمال عمر کلهم غير معاوية.
  3. نهج البلاغة 44:2، شرح ابن ابي الحديد 57:4.
  4. کذب الرجل وقد اجابه الامام (ع) بما سمعت غير انه کتمه علي اصحابه خوفا من أن يهتدي به بعض إلي الحق ويفارق الباطل.
  5. الامامة والسياسة 88:1 وفي ط 95، کتاب صفين ص 538، مروج الذهب 61 و 60: 2، نهج البلاغة 12:2، شرح ابن ابي الحديد 424:3.
  6. يعني سعد بن ابي وقاص، و عبدالله بن عمر.
  7. الامامة والسياسة 85:1، وفي ط 96، شرح ابن ابي الحديد 289:2.
  8. يعني أبا بکر وعمر.