وفد علي الثاني











وفد علي الثاني



ولما دخلت سنة 37 توادعا علي ترک الحرب في المحرم إلي انقضائه طمعا في الصلح واختلف فيما بينهما الرسل في ذلک من دون جدوي، فبعث علي عليه السلام عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، وشبث بن ربعي، وزياد بن حنظلة إلي معاوية، فلما دخلوا عليه تکلم عدي بن حاتم فحمد الله ثم قال:

أما بعد: فإنا أتيناک ندعوک إلي أمر يجمع الله عزوجل به کلمتنا وامتنا، و يحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين، إن ابن عمک سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عزوجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرک وغير من معک، فانته يا معاوية لا يصبک الله وأصحابک بيوم مثل يوم الجمل.

فقال معاوية:

کأنک إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا، هيهات ياعدي، کلا والله، إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان[1] أما والله إنک لمن المجلبين علي ابن عفان رضي الله عنه، وإنک لمن قتلته، وإني لارجو أن تکون ممن يقتل الله عزوجل به، هيهات يا عدي

[صفحه 309]

بن حاتم قد حلبت بالساعد الاشد.

فقال له شبث بن ربعي وزياد بن حنظلة: أتيناک فيما يصلحنا وإياک، فأقبلت تضرب الامثال، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياک نفعه.

وتکلم يزيد بن قيس فقال:

إنا لم نأتک إلا لنبلغک ما بعثنا به إليک، ولنؤدي عنک ما سمعنا منک، ونحن علي ذلک لن ندع أن ننصح لک، وأن نذکر ما ظننا أن لنا عليک به حجة، وانک راجع به إلي الالفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفي عليک، إن أهل الدين والفضل لم يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينک وبينه فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوي، ولا أزهد في الدنيا. ولا أجمع لخصال الخير کلها منه.

فتکلم معاوية وقال:

أما بعد: فإنکم دعوتم إلي الطاعة والجماعة، فاما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبکم فانا لا نراها، إن صاحبکم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا وآوي ثأرنا وقتلتنا، وصاحبکم يزعم انه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلک عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبکم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ثم نحن نجيبکم إلي الطاعة والجماعة.

فقال له شبث: أيسرک يا معاوية أنک امکنت من عمار تقتله؟ فقال معاوية: وما يمنعني من ذلک؟ والله لو امکنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه، و لکن کنت قاتله بناتل مولي عثمان. فقال شبث:

وإله الارض وإله السماء ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله إلا هو، لا تصل إلي عمار حتي تندر الهام عن کواهل الاقوام، وتضيق الارض الفضاء عليک برحبها.

فقال له معاوية: إنه لو قد کان ذلک کانت الارض عليک أضيق، وتفرق القوم عن معاوية فلما انصرفوا بعث معاوية إلي زياد بن حنظلة التميمي فخلا به. فحمد الله وأثني عليه وقال:

أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليا قطع أرحامنا، وآوي قتلة صاحبنا، وإني أسألک النصر باسرتک وعشيرتک، ثم لک عهد الله عزوجل وميثاقه أن اوليک إذا

[صفحه 310]

ظهرت اي المصرين أحببت. قال زياد: فلما قضي معاوية کلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه ثم قلت:

أما بعد: فإني علي بينة من ربي، وبما أنعم علي، فلن أکون ظهيرا للمجرمين. ثم قمت[2] .

وروي ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده أن قراء أهل العراق، وقراء أهل الشام عسکروا ناحية وکانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، و عبدالله بن عتبة بن مسعود وغيرهم جاؤا معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان. قالوا: فمن تطلب به؟ قال: عليا. قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم وآوي قتلته. فانصرفوا إلي علي فذکروا له ما قال فقال: کذب لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله، فرجعوا إلي معاوية فقال: إن لم يکن قتله بيده فقد أمر رجالا، فرجعوا إلي علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا فقال معاوية: فإن کان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فانهم في عسکره وجنده. فرجعوا، فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لاجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل. فرجعوا إلي معاوية فأخبروه فقال: إن کان الامر علي ما يقول فما له أنفذ الامر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن ها هنا؟ فرجعوا إلي علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والانصار، فهم شهود الناس علي ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا وبايعوني، ولست أستحل ان أدع مثل معاوية يحکم علي الامة ويشق عصاها، فرجعوا إلي معاوية فقال: ما بال من ها هنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في هذا الامر؟ فرجعوا، فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس علي وجه الارض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنکم من دينکم وأنفسکم[3] .

ها هنا تجد الباغي متجهما تجاه تلک الدعوة الحقة کأنه هو بمفرده، أو هو و طغام الشام والاجلاف الذين حوله بيدهم عقدة أمر الامة، تنحل وتعقد بمشيئتهم

[صفحه 311]

والمهاجرون والانصار والبدريون من الصحابة قط لا قيمة لهم ولا لبيعتهم وجماعتهم عنده في سوق الاعتبار، يقول: إن الجماعة معه، وإن الطاعة لا يراها هو، علي حين أنهما حصلتا له صلوات الله عليه رضي به ابن هند أو أبي، وان الجماعة التي کانت لعلي عليه السلام وبيعتهم إياه کانت من سروات المجد وأهل الحل والعقد من المهاجرين والانصار ووجوه الامصار والبلاد، ولم يتحقق اجماع في الاسلام مثله، وأما التي کانت لمعاوية في حسبانه فمن رعرعة الشام، ورواد الفتن، وسماسرة الاهواء، ولم يکن معه کما قال سيدنا قيس بن سعد بن عبادة: إلا طليقا أعرابيا، أو يمانيا مستدرجا، وکان معه مائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل کما مر حديثه في ص 195، فأي عبرة بموقف هؤلاء؟ وأي قيمة لبيعتهم بعد شذوذهم عن الحق ونبذهم إياه وراء ظهورهم؟.

من يکن ابن آکلة الاکباد وزبانيته حتي يکون لهم رأي في الخلافة؟ ويطلبوا من أميرالمؤمنين اعتزال الامر، ورده شوري بين المسلمين بعد أن العمد والدعائم من المسلمين رضوا بتلکم البيعة وعقدوها للامام الحق علي زهد منه عليه السلام فيها، لکنهم تکاثروا عليه کعرف الفرس حتي لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاه، فکان تدخل الطليق ابن الطليق في أمر الامة الذي أصفق عليه رجال الرأي والنظر تبرعا منه من غير طلب ولا جدارة، بل کان خروجا علي الامام الذي کانت معه جماعة المسلمين، وانعقدت عليه طاعتهم، فتبا لمن شق عصاهم، وفت في عضدهم.

وابن هند إن لم يکن ينازع للخلافة کما حسبه ابن حجر فما کانت تلک المحاباة وتغرير وجوه الناس ورجالات الثورات بولايات البلاد؟ فتري يجعل مصر طعمة لعمرو ابن العاص، وله خطواته الواسعة وراء قتل عثمان، ويعهد علي زياد التميمي أن يوليه أي المصرين أحب إذا ظهر، غير ان التميمي کان علي بينة من ربه فيما أنعم الله عليه لم يک ظهيرا للمجرمين، وکذلک قيس بن سعد الانصاري کتب إليه معاوية يعده بسلطان العراقين إذا ظهر ما بقي، ولم أحب قيس سلطان الحجاز مادام له سلطان[4] وقيس شيخ الانصار، وهم المتسربلون بالحديد يوم الجمل قائلين: نحن قتلة عثمان.

ولنا حق النظر في قوله لشبث بن ربعي: وما يمنعني من ذلک والله لو امکنت من

[صفحه 312]

ابن سمية ما قتلته بعثمان إلخ. من الذي أخبر معاوية عن عمار وعن قتله عثمان ومولاه ناتل؟ وکان معاوية يومئذ بالشام، ولينظر في البينة التي حکم بها علي عمار ولعلها قامت بشهادة مزورة زورها نفس معاوية جريا علي عادته في أمثال هذه المراقف.

وإن صدق في دعواه وکان الامر کما قرره هو فلا قود عندئذ إذ عمار من المجتهدين العدول لا يقتل إنسانا إلا من هدر الاسلام دمه، يتبع أثره، ولا ينقض حکمه، کيف لا؟ وقد ورد الثناء عليه في خمس آيات فصلناها في ج 9 ص 21 تا 24، وجاء عن النبي الاعظم قوله صلي الله عليه وآله: إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلي قدمه، وخلط الايمان بلحمه ودمه.

وقوله صلي الله عليه وآله: عمار خلط الله الايمان ما بين قرنه إلي قدمه، وخلط الايمان بلحمه ودمه، يزول مع الحق حيث زال، وليس ينبغي للنار أن تأکل منه شيئا.

وقوله صلي الله عليه وآله: ملئ إيمانا إلي مشاشه. وفي لفظ: حشي ما بين اخمص قدميه إلي شحمة اذنيه إيمانا.

وقوله صلي الله عليه وآله: إن عمارا مع الحق والحق معه، يدور عمار مع الحق أينما دار، وقاتل عمار في النار.

وقوله صلي الله عليه وآله: إذا اختلف الناس کان ابن سمية مع الحق.

وقوله صلي الله عليه وآله: دم عمار ولحمه حرام علي النار أن تطعمه.

وقوله صلي الله عليه وآله: ما لهم ولعمار؟ يدعوهم إلي الجنة ويدعونه إلي النار، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلک من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه.

نعم: صدق معاوية في قوله: ما يمنعني من ذلک؟ وأي وازع للانسان عن قتل عمار إذا ما صدق النبي صلي الله عليه وآله وسلم في أقواله هذه وقوله: ما لقريش وعمار يدعوهم إلي الجنة، ويدعونه إلي النار، قاتله وسالبه في النار.

وقوله: من عادي عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن يسفه عمارا يسفهه الله، ومن يسب عمارا يسبه الله، ومن يحقر عمارا حقره الله، ومن يلعن عمارا لعنه الله، ومن ينتقص عمارا ينتقصه الله[5] .

[صفحه 313]


صفحه 309، 310، 311، 312، 313.








  1. القعقعة: تحريک الشيئ اليابس الصلب مع صوت. والشنان جمع شن بالفتح: القربة البالية. واذا قعقع بالشنان للابل نفرت، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه مالا حقيقة له.
  2. تاريخ الطبري 3:6، الکامل لابن الاثير 124:3، تاريخ ابن کثير 258:7.
  3. تاريخ ابن کثير 258:7.
  4. تاريخ الطبري 228:5.
  5. راجع تفصيل هذه الاحاديث في الجزء التاسع ص 24 تا 28.