رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها











رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها



قال ابن الاثير: فلما بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلي الحجاز في ألف فارس فلما دناه من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس فلما نظر إليه قال: لا مرحبا ولا أهلا، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلي ولشر منها، ولفيه إبن الزبير فقال: لا مرحبا ولا أهلا، خب ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشک والله أن يؤخذ بذنبه، ويدق ظهره، نحياه عني. فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبدالرحمن بن أبي بکر فقال له معاوية: لا أهلا ولا مرحبا شيخ قد خرف وذهب عقله، ثم أمر فضرب وجه راحلته، ثم فعل بابن عمر نحو ذلک فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتي دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم علي منازلهم ولم يروا منه ما يحبون فخرجوا إلي مکة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذکر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟ وما أظن قوما بمنتهين حتي تصيبهم بوائق تجتث اصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثلا.


قد کنت حذرتک آل المصطلق
وقلت: يا عمرو أطعني وانطلق


إنک إن کلفتني ما لم أطق
ساءک ما سرک مني من خلق


دونک ما استسقيته فاحس وذق

[صفحه 252]

ثم دخل علي عائشة وقد بلغها انه ذکر الحسين وأصحابه فقال: لاقتلنهم إن لم يبايعوا. فشکاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنک تتهددهم بالقتل؟ فقال: يا ام المؤمنين هم أعز من ذلک، ولکني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟ قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلي ما تحب إن شاء الله. قال: أفعل. وکان في قولها له: ما يؤمنک أن أقعد لک رجلا يقتلک وقد فعلت بأخي ما فعلت (تعني أخاها محمدا) فقال لها: کلا يا ام المؤمنين إني في بيت أمن. قالت: أجل. ومکث بالمدينة ما شاء الله.

ثم خرج إلي مکة فلقيه الناس فقال اولئک النفر: نتلقاه فلعله قد ندم علي ما کان منه. فلقوه ببطن مر فکان أول من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحبا وأهلا يا ابن رسول الله وسيد شباب المسلمين. فأمر له بدابة فرکب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلک وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتي دخل مکة فکانوا أول داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذکر لهم شيئا حتي قضي نسکه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض اولئک النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بکم هذا لحبکم وما صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا. فاتفقوا علي أن يکون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيکم، وصلتي لارحامکم، وحملي ما کان منکم، ويزيد أخوکم وابن عمکم و أردت أن تقدموه باسم الخلافة، وتکونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضکم في شيئ من ذلک. فسکتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرتين، ثم أقبل علي ابن الزبير فقال: هات لعمري انک خطيبهم، فقال: نعم نخيرک بين ثلاث خصال قال: أعرضهن. قال: تصنع کما صنع رسول الله صلي الله عليه وسلم أو کما صنع أبوبکر، أو کما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا فارتضي الناس أبا بکر قال: ليس فيکم مثل أبي بکر وأخاف الاختلاف. قالوا: صدقت فاصنع کما صنع أبوبکر فانه عهد إلي رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع کما صنع عمر جعل الامر شوري في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني ابيه. قال معاوية: هل عندک غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإني قد أحببت أن أتقدم إليکم انه قد أعذر من أنذر، اني کنت أخطب منکم فيقوم إلي القائم منکم فيکذبني علي رؤس الناس فأحمل ذلک وأصفح، وإني قائم بمقالة فاقسم بالله لئن رد علي أحدکم کلمة في مقامي

[صفحه 253]

هذا لا ترجع إليه کلمة غيرها حتي يسبقها السيف إلي رأسه، فلا يبقين رجل إلا علي نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم علي رأس کل رجل من هؤلاء رجلين ومع کل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي کلمة بتصديق أو تکذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتي رقي المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يفضي إلا عن مشورتهم وانهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا علي اسم الله. فبايع الناس وکانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم رکب رواحله وانصرف إلي المدينة، فلقي الناس اولئک النفر فقالوا لهم: زعمتم انکم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعکم أن تردوا علي الرجل؟ قالوا: کادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثم انصرف إلي الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عباس فقال له: ما بالک جفوتنا؟ قال: إن صاحبکم- يعني الحسين عليه السلام- لم يبايع ليزيد فلم تنکروا ذلک عليه. فقال: يا معاوية اني لخليق أن أنحاز إلي بعض السواحل فاقيم به ثم أنطق بما تعلم حتي أدع الناس کلهم خوارج عليک. قال: يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون.[1] .

وجاء في لفظ ابن قتيبة: إن معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهبا إلي منزله وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عباس، وعبدالرحمن بن أبي بکر وأوصاهم معاوية قال: إني خارج العشية إلي أهل الشام فاخبرهم: أن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا، فإن تکلم أحد منهم بکلام يصدقني أو يکذبني فيه فلا ينقضي کلامه حتي يطير رأسه. فحدر القوم ذلک، فلما کان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحکهم ويحدثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلة حمراء، وألبس الحسين حلة صفراء، وألبس عبدالله بن عباس حلة خضراء، وألبس ابن الزبير حلة يمانية، ثم خرج بينهم وأظهر لاهل الشام الرضا عنهم- أي القوم- وانهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام إن هؤلاء النفر دعاهم أميرالمؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد

[صفحه 254]

بايعوا وسلموا ذلک، والقوم سکوت لم يتکلموا شيئا حذر القتل، فوثب اناس من أهل الشام فقالوا: يا أميرالمؤمنين إن کان رابک منهم ريب فحل بيننا وبينهم حتي نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحل دماء قريش عندکم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذکرا بسوء فانهم بايعوا وسلموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثم ارتحل معاوية راجعا إلي مکة وقد أعطي الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلي کل قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبدالله ابن عباس في أثره حتي لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: من بالباب؟ فيقال: عبدالله بن عباس فلم يأذن لاحد، فلما استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عباس فدعا بدابته فادخلت إليه ثم خرج راکبا فوثب إليه عبدالله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثم قال: أين تذهب؟ قال: إلي مکة. قال: فأين جوائزنا کما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لکم عندي جائزة ولا عطاء حتي يبايع صاحبکم. قال ابن عباس: فقد أبي ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبي عبدالله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبي صاحبنا وقد أبي صاحب غيرنا. فقال معاوية: لستم کغيرکم، لا والله لا اعطيکم درهما حتي يبايع صاحبکم، فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لالحقن بساحل من سواحل الشام ثم لاقولن ما تعلم، والله لاترکنهم عليک خوارج. فقال معاوية: لا بل اعطيکم جوائزکم، فبعث بها من الروحاء ومضي راجعا إلي الشام. الامامة والسياسة 156:1.

قال الاميني: إن المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جد عليم أنها تمت برواعد الارهاب، وبوراق التطميع، وعوامل البهت والافتراء، فيري معاوية يتوعد هذا، ويقتل ذاک، ويولي آخر علي المدن والامصار ويجعلها طعمة له، ويدر من رضائخه علي النفوس الواطئة ذوات الملکات الرذيلة، وفي القوم من لا يؤثر فيه شيئ من ذلک کله، غير انه لا رأي لمن لا يطاع، لکن إمام الهدي، وسبط النبوة، ورمز الشهادة والاباء لم يفتأ بعد ذلک کله مصحرا بالحقيقة، ومصارحا بالحق، وداحضا للباطل مع کل تلکم الحنادس المدلهمة، أصغت إليه اذن أم لا، وصغي إلي قيله أحد أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعا عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين

[صفحه 255]

ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلي من وافقه في شيئ من الامر، ولا ما أعده لهم من التوعيد والارجاف بهم، ولم تک تأخذه في الله لومة لائم، حتي لفظ معاوية نفسه الاخير رمزا للخزاية وشية العار، ولقي الحسين عليه السلام ربه وقد أدي ما عليه، رمزا للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الاکبر، نعم: لقي الحسين عليه السلام ربه وهو ضحية تلک البيعة،- بيعة يزيد- کما لقي أخوه الحسن ربه مسموما من جراء تلکم البيعة الملعونة التي جرت الويلات علي امة محمد صلي الله عليه وآله وسلم واستتبعت هدم الکعبة، والاغارة علي دار الهجرة يوم الحرة وأبرزت بنات المهاجرين والانصار للنکال والسوءة، وأعظمها رزايا مشهد الطف التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة صلوات الله عليهم، وترکت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب، وتندب النوادب، وقرحت الجفون، وأسکبت المدامع، إنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. نعم: تمت تلک البيعة المشومة مع فقدان أي جدارة وحنکة في يزيد، تأهله لتسنم عرش الخلافة علي ما تردي به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الکلاب، إلي ما لا يتناهي من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلک کله منذ اولياته وعرفه به اناس آخرون، وحسبک شهادة وفد بعثه أهل المدينة إلي يزيد وفيهم: عبدالله بن حنظلة غسيل الملائکة، وعبدالله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون کثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا علي يزيد فأکرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة کلهم إلا المنذر، فلما قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالکلاب، ويسامر الحراب، وهم اللصوص والفتيان، وإنا نشهدکم انا قد خلعناه فتابعهم الناس.[2] .

وقال عبدالله بن حنظلة ذلک الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرة يومئذ: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريک له، فوالله ما خرجنا علي يزيد حتي خفنا أن نرمي

[صفحه 256]

بالحجارة من السماء، إن رجلا ينکح الامهات والبنات والاخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، والله لو لم يکن معي أحد من الناس لابليت لله فيه بلاء حسنا.[3] .

ولما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءک؟ قال: أتيتکم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاءزلجاهدته بهم.[4] .

وقال المنذر بن الزبير لما قدم المدينة: إن يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن اخبرکم خبره، والله انه ليشرب الخمر، والله انه ليسکر حتي يدع الصلاة.[5] .

وقال عتبة بن مسعود لابن عباس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مه فأين ما قلت لکم؟ وکم بعده من آت ممن يشرب الخمر أو هو شر من شاربها أنتم إلي بيعته سراع، أما والله اني لانهاکم وأنا أعلم أنکم فاعلون حتي يصلب مصلوب قريش بمکة- يعني عبدالله بن الزبير-.[6] .

نعم: لم يک علي مخازي يزيد من أول يومه حجاب مسدول يخفيها علي الاباعد والاقارب، غير ان أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غض الطرف عنها جمعاء، وحسب انها تخفي علي الملا الديني بالتمويه، وطفق يذکر له فضلا وعلما بالسياسة، فجابهه لسان الحق وإنسان الفضيلة حسين العظمة بکلماته المذکورة في صفحة 248 و 250 ومعاوية هو نفسه يندد بابنه في کتاب کتبه إليه ومنه قوله: اعلم يا يزيد أن اول ما سلبکه السکر معرفة مواطن الشکر لله علي نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجرحة العظمي، والفجعة الکبري: ترک الصلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثم استحسان العيوب، ورکوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السر، فلا تأمن نفسک علي سرک، ولا تعتقد علي فعلک، الکتاب.[7] .

فنظرا إلي ما عرفته الامة من يزيد من مخازيه وملکاته الرذيلة عد الحسن البصري استخلاف معاوية إياه من موبقاته الاربع کما مر حديثه في صفحة 225.

[صفحه 257]


صفحه 252، 253، 254، 255، 256، 257.








  1. العقد الفريد 304 -302: 2، الکامل لابن الاثير 218 -21: 3، ذيل الامالي ص 177، جمهرة الرسائل 69:2 واللفظ لابن الاثير.
  2. تاريخ الطبري 4:7، الکامل لابن الاثير 45:4، تاريخ ابن کثير 216:8، فتح الباري 59:13.
  3. تاريخ ابن عساکر 372:7.
  4. تاريخ ابن عساکر 372:7، الکامل لابن الاثير 45:4، الاصابة 299:2.
  5. کامل ابن الاثير 45:4، تاريخ ابن کثير 216:8.
  6. الامامة والسياسة 167:1.
  7. صبح الاعشي 387:6.