خطب الإمام بذي قار











خطب الإمام بذي قار



2183- نهج البلاغة- في ذکر خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة-: قال عبداللَّه بن عبّاس: دخلت علي أميرالمؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: واللَّه لهي أحبّ إليّ من إمرتکم إلّا أن اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً. ثمّ خرج فخطب الناس فقال:

إنّ اللَّه بعث محمّداً صلي الله عليه و آله وليس أحد من العرب يقرأ کتاباً ولا يدّعي نبوّة، فساق الناس حتي بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم واطمأنّت صفاتهم.

أما واللَّه، إن کنت لفي ساقتها[1] حتي تولّت بحذافيرها، ما عجَزتُ ولا جبنتُ، وإنّ مسيري هذا لمثلها، فَلأنقُبنَّ الباطل حتي يخرج الحقّ من جنبه.

مالي ولقريش! واللَّه، لقد قاتلتهم کافرين ولاُقاتلنّهم مفتونين، وإنّي لصاحبهم بالأمس کما أنا صاحبهم اليوم، واللَّه ما تنقم منّا قريش إلّا أنّ اللَّه اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا فکانوا کما قال الأوّل:

[صفحه 191]

أدَمتَ لَعَمري شُربَکَ المحضَ صابحاً
وأکلَکَ بالزبد المقشّرةَ البُجرا


ونحن وهبناک العلاءَ ولم تکن
عليّاً وحُطنا حولک الجُردَ والسُّمرا[2] .


2184- شرح نهج البلاغة عن زيد بن صوحان- من خطبته بذي قار-: قد علم اللَّه سبحانه أنّي کنت کارهاً للحکومة بين اُمّة محمّد صلي الله عليه و آله، ولقد سمعته يقول: «ما من والٍ يلي شيئاً من أمر اُمّتي إلّا اُتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلي عنقه علي رؤوس الخلائق، ثمّ يُنشر کتابه، فإن کان عادلاً نجا، وإن کان جائراً هوي».

حتي اجتمع عليَّ ملؤکم، وبايعني طلحة والزبير، وأنا أعرف الغدر في أوجههما، والنکث في أعينهما، ثمّ استأذناني في العمرة، فأعلمتُهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلي مکّة واستخفّا عائشة وخدعاها، وشخص معهما أبناءُ الطلقاء، فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنکر. ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بکر وعمر وبغيهما عليَّ! وهما يعلمان أنّي لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد کان معاوية کتب إليهما من الشام کتاباً يخدعهما فيه، فکتماه عنّي، وخرجا يوهمان الطَّغام[3] أنّهما يطلبان بدم عثمان.

واللَّه، ما أنکرا عليّ منکراً، ولا جعلا بيني وبينهم نِصْفاً،[4] وإنّ دم عثمان لمعصوب بهما، ومطلوب منهما.

يا خيبة الداعي! إلامَ دعا؟ وبماذا اُجيبَ؟ واللَّه، إنّهما لعلي ضلالة صمّاء، وجهالة عمياء، وإنّ الشيطان قد ذمر لهما حزبه، واستجلب منهما خيله ورجله، ليعيد الجور إلي أوطانه، ويردّ الباطل إلي نصابه.

[صفحه 192]

ثمّ رفع يديه، فقال:

اللهمّ إنّ طلحة والزبير قطعاني، وظلماني، وألّبا عليَّ، ونکثا بيعتي، فاحلل ما عقدا، وانکث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبداً، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا![5] .

2185- الإرشاد: من کلامه عليه السلام- وقد نهض من ذي قار متوجّهاً إلي البصرة- بعد حمد اللَّه والثناء عليه والصلاة علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

أمّا بعد، فإنّ اللَّه تعالي فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصرة له، واللَّه، ما صلحت دنيا قطّ ولا دين إلّا به، وإنّ الشيطان قد جمع حزبه واستجلب خيله وشبّه في ذلک وخدع، وقد بانت الاُمور وتمخّضت، واللَّه ما أنکروا عليّ منکراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصِفاً، وإنّهم ليطلبون حقّاً ترکوه ودماً هم سفکوه، ولئن کنت شرکتهم فيه، إنّ لهم لنصيبهم منه، ولَئن کانوا ولوه دوني فما تبعته إلّا قِبلهم، وإنّ أعظم حجّتهم لعلي أنفسهم، وإنّي لعلي بصيرتي ما لُبِّست عليَّ، وإنّها لَلفئة الباغية فيها الحُمّي والحُمة،[6] قد طالت هلبتها[7] وأمکنت درّتها،[8] يرضعون اُمّاً فطمت، ويحيون بيعة ترکت؛ ليعود الضلال إلي نصابه.

ما أعتذر ممّا فعلت، ولا أتبرّأ ممّا صنعت، فخيبة للداعي ومن دعا، لو قيل له: إلي من دعواک؟ وإلي من أجبت؟ ومن إمامک؟ وما سنّته؟ إذاً لزاح الباطل عن مقامه، ولصمت لسانه فما نطق. وايم اللَّه، لأفرُطنّ[9] لهم حوضاً أنا

[صفحه 193]

ماتحه،[10] لا يصدرون عنه ولا يلقون بعده ريّاً أبداً، وإنّي لراضٍ بحجّة اللَّه عليهم وعذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمُعذر إليهم، فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة والحقّ مقبول، وليس علي اللَّه کفران، وإن أبوا أعطيتهم حدّ السيف وکفي به شافياً من باطل وناصراً لمؤمن.[11] .

2186- الإرشاد عن سلمة بن کهيل: لمّا التقي أهل الکوفة وأميرالمؤمنين عليه السلام بذي قار رحبّوا به وقالوا: الحمد للَّه الذي خصّنا بجوارک وأکرمنا بنصرتک. فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيباً فحمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قال:

يا أهل الکوفة! إنّکم من أکرم المسلمين وأقصدهم تقويماً، وأعدلهم سنّة، وأفضلهم سهماً في الإسلام، وأجودهم في العرب مُرَکّباً[12] ونصاباً،[13] أنتم أشدّ العرب ودّاً للنبيّ صلي الله عليه و آله ولأهل بيته، وإنّما جئتکم ثقةً- بعد اللَّه- بکم للذي بذلتم من أنفسکم عند نقض طلحة والزبير وخلعهما طاعتي، وإقبالهما بعائشة للفتنة، وإخراجهما إيّاها من بيتها حتي أقدماها البصرة، فاستغووا طغامها وغوغاءها، مع أنّه قد بلغني أنّ أهل الفضل منهم وخيارهم في الدين قد اعتزلوا وکرهوا ما صنع طلحة والزبير.

ثمّ سکت، فقال أهل الکوفة: نحن أنصارک وأعوانک علي عدوّک، ولو دعوتنا إلي أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلک الخير ورجوناه.[14] .

[صفحه 194]



صفحه 191، 192، 193، 194.





  1. السَّاقةُ: جمعُ سائق، وهم الذين يَسوقون جيش الغُزاة ويکونون من ورائه يحفظونه (النهاية: 424:2).
  2. نهج البلاغة: الخطبة 33، بحارالأنوار: 50:76:32 وراجع الإرشاد: 247:1.
  3. الطَّغام: من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد الناس وأراذلهم (النهاية: 128:3).
  4. النِّصْف: الانْتِصاف. وَقد أنْصَفَه من خَصْمِه، يُنْصِفُه إنْصافاً (النهاية: 66:5).
  5. شرح نهج البلاغة: 310:1؛ الجمل: 267، بحارالأنوار: 63:32 وراجع نهج البلاغة: الخطبة 22.
  6. الحُمَة: سَمُّ کلّ شي ء يَلدَغ أو يَلسَع (لسان العرب: 201:14).
  7. الهُلْب: الشَّعَر. وقيل: هو ما غلُظ من شعر الذَّنَب وغيره (النهاية: 269:5).
  8. الدِّرَّة: کثرة اللبن وسيلانه (لسان العرب: 279:4).
  9. أفرط الحوض أي ملأه. يُفرط فيه أي يکثر في صبّ الماء فيه (لسان العرب: 366:7).
  10. الماتح: المستقي من البئر بالدَّلْو من أعلي البئر (النهاية: 291:4).
  11. الإرشاد: 251:1.
  12. المُرَکَّب: الأصل والمنبت؛ تقول: فلانٌ کريم المُرَکّب؛ أي کريم أصل منصبه في قومه (لسان العرب: 432:1).
  13. نصاب کلُّ شي ء اصله (لسان العرب: 761:1).
  14. الإرشاد: 249:1، الجمل: 266 نحوه.