استشارة الإمام أصحابه فيهم











استشارة الإمام أصحابه فيهم



کان معاوية قد أخضع الشام لسلطته عدّة سنين، بيدٍ مبسوطة وهيمنة قيصريّة، ولم يردعه أحد من الخلفاء الماضين عن أعماله قطّ. وکان يعرف أميرَ المؤمنين عليه السلام حقّ معرفته، ويعلم علم اليقين أنّه لا يتساهل معه أبداً. فامتنع عن بيعته، ورفع قميص عثمان، ونادي بالثأر له مستغلّاً جهل الشاميّين، وتأهّب للحرب.[1] فتجهّز الإمام عليه السلام لقمع هذا الباغي، وعيّن الاُمراء علي الجيش،وکتب إلي عمّاله في مصر، والکوفة، والبصرة يستظهرهم بإرسال القوّات اللازمة.

وبينا کان يعدّ العدّة لذلک بلغه تواطؤ طلحة والزبير وعائشة في مکّة، وإثارتهم

[صفحه 132]

للفتنة، وتحرّکهم صوب البصرة،[2] فرأي عليه السلام أنّ إخماد هذه الفتنة أولي، لذلک دعا وجهاء أصحابه واستطلع آراءهم.

ويستوقفنا حقّاً اُسلوب هذا الحوار، وآراء أصحابه، وموقفه الحاسم عليه السلام من قمع البغاة، وقد اشترک في الحوار المذکور: عبداللَّه بن عبّاس، ومحمّد بن أبي بکر، وعمّار بن ياسر، وسهل بن حُنيف، واقترح عبداللَّه بن عبّاس عليه أن يأخذ معه اُمّ سلمة أيضاً، فرفض صلوات اللَّه عليه ذلک، وقال: «فإنّي لا أري إخراجها من بيتها کما رأي الرجلان إخراج عائشة».[3] ولِمَ ذاک؟ ذاک لأنّه عليه السلام لم يفکّر إلّا بالحقّ لا بالنصر کيفما کان.

2129- تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة: کتب [عليّ عليه السلام] إلي قيس بن سعد أن يندب الناس إلي الشام، وإلي عثمان بن حُنيف، وإلي أبي موسي مثل ذلک، وأقبَل علي التهيّؤ والتجهّز، وخطبَ أهلَ المدينة، فدعاهم إلي النهوض في قتال أهل الفرقة وقال:... انهضوا إلي هؤلاء القوم الذين يريدون يفرّقون جماعتکم؛ لعلّ اللَّه يُصلح بکم ما أفسد أهل الآفاق، وتقضون الذي عليکم.

فبينا هم کذلک إذ جاء الخبر عن أهل مکّة بنحوٍ آخر وتمامٍ علي خلاف فقام فيهم بذلک فقال:... ألا وإنّ طلحة والزبير واُمّ المؤمنين قد تمالؤوا علي سخط إمارتي، ودَعَوا الناس إلي الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف علي جماعتکم، وأکفّ إن کفّوا، وأقتصر علي ما بلغني عنهم.[4] .

[صفحه 133]

2130- الجمل: ولمّا اجتمع القوم علي ما ذکرناه من شقاق أميرالمؤمنين عليه السلام والتأهّب للمسير إلي البصرة، واتّصل الخبر إليه، وجاءه کتاب بخبر القوم، دعا ابن عبّاس، ومحمّد بن أبي بکر، وعمّار بن ياسر، وسهل بن حنيف، وأخبرهم بالکتاب وبما عليه القوم من المسير.

فقال محمّد بن أبي بکر: ما يريدون يا أمير المؤمنين؟ فتبسّم عليه السلام وقال: يطلبون بدم عثمان! فقال محمّد: واللَّه، ما قتل عثمانَ غيرُهم، ثمّ قال أميرالمؤمنين عليه السلام: أشيروا عليَّ بما أسمع منکم القول فيه.

فقال عمّار بن ياسر: الرأي المسير إلي الکوفة؛ فإنّ أهلها لنا شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلي البصرة.

وقال ابن عبّاس: الرأي عندي يا أميرالمؤمنين أن تُقدِّم رجلاً إلي الکوفة فيبايعون لک، وتکتب إلي الأشعري أن يبايع لک، ثمّ بعده المسير حتي نلحق بالکوفة، وتعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة، وتکتب إلي امّ سلمة فتخرج معک؛ فإنّها لک قوّة.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: بل أسير بنفسي ومن معي في اتّباع الطريق وراء القوم، فإن أدرکتهم في الطريق أخذتهم، وإن فاتوني کتبت إلي الکوفة واستمددت الجنود من الأمصار وسرت إليهم. وأمّا اُمّ سلمة فإنّي لا أري إخراجها من بيتها کما رأي الرجلان إخراج عائشة.

فبينما هم في ذلک إذ دخل عليهم اُسامة بن زيد بن حارثة وقال لأمير المؤمنين عليه السلام: فداک أبي واُمّي! لا تسِر سيراً واحداً، وانطلق إلي يَنْبُع، وخلِّف علي المدينة رجلاً، وأقِم بما لَکَ؛ فإنّ العرب لهم جولة ثمّ يصيرون إليک.

فقال له ابن عبّاس: إنّ هذا القول منک يا اُسامة إن کان علي غير غِلٍّ في

[صفحه 134]

صدرک فقد أخطأت وجه الرأي فيه، ليس هذا برأي بصير، يکون واللَّه کهيئة الضبع في مغارتها. فقال اُسامة: فما الرأي؟ قال: ما أشرتُ به، أو ما رآه أميرالمؤمنين لنفسه.

ثمّ نادي أميرالمؤمنين عليه السلام في الناس: تجهّزوا للمسير؛ فإنّ طلحة والزبير قد نکثا البيعة، ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفک دماء أهل القبلة.

ثمّ رفع يديه إلي السماء فقال: اللهمّ إنّ هذين الرجلين قد بغيا عليَّ، ونکثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقّاني بغير حقّ منهما کان في ذلک، اللهمّ خذهما بظلمهما لي، واظفِرني بهما، وانصرني عليهما.[5] .

2131- الإمام عليّ عليه السلام- لمّا اُشير عليه بألّا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال-: واللَّه لا أکون کالضَّبُع؛ تنام علي طول اللَّدْم[6] حتي يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولکنّي أضرب بالمقبل إلي الحقّ المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصيَ المريب أبداً حتي يأتي عليَّ يومي. فوَاللَّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثَراً عليَّ منذ قبض اللَّه نبيّه صلي الله عليه و آله حتي يوم الناس هذا.[7] .



صفحه 132، 133، 134.





  1. راجع: وقعة صفّين/السياسة العلويّة/استعداد الإمام لحرب معاوية قبل حرب الجمل.
  2. تاريخ الطبري: 455:4، الکامل في التاريخ: 312:2 و ص 323.
  3. الجمل: 239.
  4. تاريخ الطبري: 445:4، الکامل في التاريخ: 311:%2 و 312 وراجع الإمامة والسياسة: 74:1 والبداية والنهاية: 230:7.
  5. الجمل: 239.
  6. أي ضَرْب جُحرها بحجر، إذا أرادوا صَيْد الضَّبُع ضربوا جُحْرها بحَجر، أو بأيديهم، فتحسبُه شيئاً تصيده، فتخرج لتأخذه، فتُصطاد (النهاية: 246:4).
  7. نهج البلاغة: الخطبة 6، بحارالأنوار: 110:135:32.