المدخل











المدخل



تسلّم الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام مقاليد الخلافة بعد انثيال الناس عليه، وإقبالهم المنقطع النظير، وإصرارهم المتواصل. وبيّن سياسته في الحکم بصراحة في أوّل خطبة حماسيّة جليلة له، وذکر فيها أنّه لن يطيق الامتيازات التي لا أساس لها في الإسلام، وأنّه سوف يُحدث تغييراً جذريّاً في المجتمع، ويقضي علي التفاضل والتمايز الموهوم في کافّة زوايا المجتمع؛ لأنّ ذلک کلّه من سِمات الجاهليّة التي عادت إلي الناس کهيئتها قبل البعثة النبويّة الشريفة.[1] .

ومن الواضح أنّ الکثيرين لم يتحمّلوا تلک المساواة، وامتعضوا من فقدانهم منزلتهم وامتيازاتهم، ولم يهدأ اُولئک الذين عکّروا الماء عند هجومهم علي عثمان ليصطادوا لهم منصباً. ولم يُطِق هذه السياسة الثوريّة العاصفة الوصوليّون النفعيّون الذين تسلّطوا علي الاُمّة بلا سابقة ولا شرف باذخ، وفعلوا ما شاؤوا، غير مبالين بالحکومة المرکزيّة.

[صفحه 10]

ولهذا لم تکَد تمضي أيّام قلائل علي حکومة الإمام صلوات اللَّه عليه حتي بدأت المواجهات، وتکشّفت الذرائع والحجج الواهية التي اتّصلت فصبغت السنوات الخمس- التي هي مدّة حکم الإمام عليه السلام- بصِبغة الحروب والدماء.

وکانت تلک المواجهات عسيرة ثقيلة إذا ما نظرنا إلي جذورها، وکيفيّة تبلور الکيان الذي کان عليه مُوقدوها، لاسيما أصحاب الجمل والنهروان، وأصحر الإمام عليه السلام بذلک مراراً، فقال: «لو لم أکُ فيکم ما قُوتل أصحاب الجمل وأهل النهروان».[2] .

وقال: «إنّي فقأت عين الفتنة، ولم يکن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غَيهَبها،[3] واشتدّ کَلَبُها»[4] [5] .

تُري! من کان قادراً علي إبصار ذلک السحاب المرکوم من الأفکار الفاسدة، والجهل المطبق، والشرک المعقّد، في ظلّ العناوين البرّاقة الخادعة؛ کعنوان: الصحابة، وعنوان السابقين، ووجوه المتنسّکين الجهلة المتحجّرين أصحاب الجباه التي أثفنها السجود؟! ومن کان متمکّناً من الأمر بقمع هؤلاء وإبادتهم؟!

أجل، کان عمل عليّ عليه السلام عملاً عسيراً، وکان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يري ذلک کلّه في

[صفحه 11]

مرآة الزمن، فأشار إليه مراراً، وقال مخاطباً الإمام: «تقاتل علي التأويل کما قاتلتُ علي التنزيل»، وقال: «إنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي علي تأويل القرآن کما قاتلتُ علي تنزيله». وأکثر من ذلک أنّه صلي الله عليه و آله کشف هويّة مُسعّري الحروب ضدّ الإمام، فقال: «هذا واللَّه قاتل القاسطين والناکثين والمارقين بعدي».

من هنا کان بعض الصحابة يتحدّثون عن هذه الحقيقة قبل أن تُقبل الخلافة علي الإمام عليه السلام.[6] .

وکان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله مکلّفاً برسالة إبلاغ الدين، کما کان علي عاتقه مهمّة الکشف عمّا سيحدث لهذه الاُمّة في المستقبل؛ لأنّ دينه يتّصف بالخلود، وهو لکلّ زمان ومکان. فکان يخبر بتلک المواجهات، ويعرّف الناس بمُوقدي نار الفتنة- کما مرّ- فذکرهم في عِداد أهل الباطل، وعرّفهم، علي أنّهم شرذمة فتنة، وفئة باغية، وقال صلي الله عليه و آله: «يا عليّ ستُقاتلک الفئة الباغية، وأنت علي الحقّ، فمن لم ينصرک يومئذٍ فليس منّي».[7] .

ومن جانب آخر، فقد صرّح صلي الله عليه و آله للجميع بأحقّية الإمام عليه السلام في حروبه، واستقامته فيها، بعد أن کان يُطري علي شخصيّة الإمام، ويؤکّد أنّه مع الحقّ والحقّ معه دائماً،[8] فقال صلي الله عليه و آله: «أنت... تقاتل عن سنّتي»،[9] وقال: «حرب عليّ

[صفحه 12]

حرب اللَّه»،[10] وقال: «حربک حربي»،[11] أو: «حربک حربي، وسلمک سلمي»،[12] إلي غيرها من الأحاديث.

وبهذا کلّه أفصح رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن مقام الإمام الإلهيّ؛ لتستبين في المستقبل حقائق الأشخاص والأعمال، وتتجلّي صفة الحقّ والباطل.

وبعد هذه النظرة المقتضبة سنکون مع إضمامة من الأخبار والأسانيد التي تتکفّل بإضاءة ما أوردناه.

[صفحه 13]



صفحه 10، 11، 12، 13.





  1. راجع: القسم الخامس/الإصلاحات العلويّة.
  2. الغارات: 7:1 و ص 16، تاريخ اليعقوبي: 193:2، کتاب سليم بن قيس: 48:870:2 نحوه، بحارالأنوار: 559:366:33؛ خصائص أميرالمؤمنين للنسائي: 188:324، کنز العمّال: 31565:298:11.
  3. الغَيهَب: الظُّلمة (لسان العرب: 653:1).
  4. الکَلَب: داء يعرض للإنسان من عضّ الکَلْب الکَلِب، فيصيبُه شبه الجنون فلا يَعضّ أحداً إلّا کَلِبَ، ويمتنع من شرب الماء حتي يموت عطشاً (لسان العرب: 723:1).
  5. نهج البلاغة: الخطبة 93، الغارات: 6:1، تاريخ اليعقوبي: 193:2، بحارالأنوار: 61:348:41؛ ينابيع المودّة: 3:433:3.
  6. راجع: إخبار النبيّ بالفتن بعده وأمر النبيّ بقتال المفتونين.
  7. تاريخ دمشق: 9044:473:42، کنز العمّال: 32970:613:11.
  8. تاريخ بغداد: 7643:321:14، تاريخ دمشق: 9205:449:42. راجع: القسم الثاني/أحاديث العصمة/عليّ مع الحقّ.
  9. مسند أبي يعلي: 524:271:1، المناقب للخوارزمي: 143:129، ينابيع المودّة: 3:374:1، کنز العمّال: 374:13:1؛ کنز الفوائد: 179:2، شرح الأخبار: 35:113:1، کتاب سليم بن قيس: 2:569:2 و ص 25:769، المناقب للکوفي: 278:351:1.
  10. الخصال: 5:496، الأمالي للصدوق: 146:149 و ص 52:85، بشارة المصطفي: 20.
  11. المناقب لابن المغازلي: 73:50؛ تفسير فرات: 360:266.
  12. الأمالي للطوسي: 763:364، کنز الفوائد: 179:2، شرح الأخبار: 102:2، المناقب لابن شهر آشوب: 217:3؛ المناقب للخوارزمي: 143:129.