عدم جواز عمل الحاكم بعلمه











عدم جواز عمل الحاکم بعلمه



قال الحافظ الاصولي الکبير الامام أبوإسحاق إبراهيم بن موسي اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفي 790 في کتابه القيم (الموافقات في اصول الاحکام) ج 2 ص 184: لو حصلت له مکاشفة بأن هذا المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد کاذب، أو أن المال لزيد، وقد تحصل (للحاکم) بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلک، فلا يصح له العمل علي وفق ذلک ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلي التيمم، ولا ترک قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يد علي حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحکم الشريعة أمر آخر، فلا يترکها إعتمادا علي مجرد المکاشفة أو الفراسة، کما لا يعتمد فيها علي الرؤيا النومية، ولو جاز ذلک لجاز نقض الاحکام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فکذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: إنکم تختصمون إلي ولعل بعضکم أن يکون ألحن بحجته من بعض فأحکم له علي نحو ما أسمع منه. ألحديث. فقيد الحکم بمقتضي ما يسمع وترک ما وراء ذلک، وقد کان کثير من الاحکام التي تجري علي يديه يطلع علي أصلها وما فيها من حق وباطل، ولکنه عليه الصلاة والسلام لم يحکم إلا علي وفق ما سمع، لا علي وفق ما علم[1] وهو أصل في منع الحاکم أن يحکم بعلمه، وقد ذهب مالک في القول المشهور عنه: ان الحاکم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحکم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمد الکذب، لانه إذا لم يحکم بشهادتهم کان حاکما بعلمه، هذا مع کون علم الحاکم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها لا من الخوارق التي تداخلها امور، والقائل

[صفحه 55]

بصحة حکم الحاکم بعلمه فذلک بالنسبة إلي العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلک لم يعتبره رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو الحجة العظمي. إلي أن قال: في ص 187. إن فتح هذا الباب يؤدي إلي أن لا يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران علي الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا تري إلي باب الدعاوي المستند إلي ان البينة علي المدعي واليمين علي من أنکر، ولم يستثن من ذلک أحد حتي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم احتاج إلي البينة في بعض ما انکر فيه مما کان اشتراه فقال: من يشهد لي؟ حتي شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين. فما ظنک بآحاد الامة، فلو ادعي أکبر الناس علي أصلح الناس لکانت البينة علي المدعي واليمين علي من أنکر، وهذا من ذلک والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الاوامر والنواهي الشرعية. وقال في ص 189:

فصل: إذا تقرر إعتبار ذلک الشرط فأين يسوغ العمل علي وفقها؟ فالقول في ذلک ان الامور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضي ما تقدم وذلک علي أوجه: أحدها أن يکون في أمر مباح کأن يري المکاشف ان فلانا يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة،أو يطلع علي ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلک، فيعمل علي التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن کان قصده بشر، فهذا من الجائز له کما لو رأي رؤيا تقتضي ذلک، لکن لا يعامله إلا بما هو مشروع کما تقدم.

ألثاني: أن يکون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل علي نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره، والکرامة کما انها خصوصية کذلک هي فتنة واختبار لينظر کيف تعملون، فإن عرضت حاجة أو کان لذلک سبب يقتضيه فلا بأس. وقد کان رسول الله صلي الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات للحاجة إلي ذلک، ومعلوم انه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بکل مغيب إطلع عليه، بل کان ذلک في بعض الاوقات وعلي مقتضي الحاجات، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام

[صفحه 56]

المصلين خلفه: أنه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلک من الفائدة المذکورة في الحديث، وکان يمکن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلک، وهکذا سائر کراماته ومعجزاته، فعمل امته بمثل ذلک في هذا المکان أولي منه في الوجه الاول، ولکنه مع ذلک في حکم الجواز لما تقدم من خوف العوارض کالعجب ونحوه.

ألثالث: أن يکون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لکل عدته فهذا أيضا جائز کالاخبار عن أمر ينزل إن لم يکن کذا، أو لا يکون إن فعل کذا فيعمل علي وفق ذلک. إلخ.


صفحه 55، 56.








  1. قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات: لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضي ما عرفه من طريق الباطن کما حکي القران عن الخضر عليه السلام حتي يکون للامة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. إلي أن قال: والحکم بالظاهر وان لم يکن مطابقا للواقع ليس بخطأ لافه حکم بما أمر الله.