الاستخلاف عن النبيّ في غزوة تبوك











الاستخلاف عن النبيّ في غزوة تبوک



تبوک هي أقصي منطقة توجّه إليها النبيّ صلي الله عليه و آله في حروبه. وبدأت تحرّکات المنافقين في المدينة في وقت راح رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يعدّ جيشه للانطلاق إلي تبوک. والحوادث التي وقعت تدلّ بوضوح علي أنّ المنافقين في المدينة کانوا يتحيّنون الفرصة لتوجيه ضربتهم للحکومة النبويّة الجديدة. وکانت هذه الغيبة الطويلة للنبيّ فرصة مناسبة لهم. من هنا، نلحظ أنّه صلي الله عليه و آله استخلف في البداية محمّد بن مسلمة علي المدينة، ثمّ جعل عليّاً عليه السلام عليها، وقال:

«أنا لابدّ من أن اُقيم أو تقيم».[1] .

وقال:

«إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بک».[2] .

[صفحه 260]

وهکذا أخفقت المؤامرة، فإنّ وجود عليّ عليه السلام ألقي الرعب في قلوب المنافقين والمتآمرين، وآيسهم من القيام بأيّ تحرّک في المدينة، فراحوا يعزفون علي وتر آخر؛ فإنّ غزوة تبوک کانت الغزوة الوحيدة التي لم يشهدها أميرالمؤمنين عليه السلام بقرار النبيّ صلي الله عليه و آله، ولما طرأ من أحداث في المدينة.[3] فأرجفوا أنّ عليّاً تخلّي عن الحرب وخذل النبيّ ولم يرافقه مع رغبة النبيّ في حضوره معه. فما کان من الإمام عليه السلام إلّا أن هرع إليه صلي الله عليه و آله قبل مغادرته، وأخبره بأراجيفهم، فنطق النبيّ صلي الله عليه و آله عندئذٍ کلمته الخالدة العظيمة في حقّه: «أما ترضي أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».[4] .

وهکذا اُحبطت هذه المؤامرة في مهدها، وسجّل التاريخ لعليٍّ عليه السلام أسطع المناقب أمام أنظار الناس.

237- الطبقات الکبري عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم: لمّا کان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوک، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لعليّ بن أبي طالب: إنّه لابدّ من أن اُقيم أو تقيم، فخلّفه، فلمّا فصل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله غازياً قال ناس: ما خلّف عليّاً إلّا لشي ء کرهه منه.

فبلغ ذلک عليّاً، فاتّبع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حتي انتهي إليه، فقال له: ما جاء بک يا عليّ؟! قال: لا يا رسول اللَّه إلّا أنّي سمعت ناساً يزعمون أنّک إنّما خلّفتني لشي ء کرهته منّي!! فتضاحک رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقال: يا عليّ، أما ترضي أن تکون منّي کهارون من موسي غير أنّک لست بنبيّ؟! قال: بلي يا رسول اللَّه، قال: فإنّه

[صفحه 261]

کذلک.[5] .

238- تاريخ الطبري عن ابن إسحاق- في خروج النبيّ صلي الله عليه و آله إلي غزوة تبوک: خلّف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب علي أهله، وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف علي المدينة سباع بن عرفطة أخا بني غفّار، فأرجف المنافقون بعليّ بن أبي طالب، وقالوا: ما خلّفه إلّا استثقالاً له، وتخفّفاً منه.

فلمّا قال ذلک المنافقون أخذ عليّ سلاحه، ثمّ خرج حتي أتي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو بالجرف، فقال: يا نبيّ اللَّه، زعم المنافقون أنّک إنّما خلّفتني أنّک استثقلتني وتخفّفت منّي! فقال: کذبوا، ولکنّي إنّما خلّفتک لما ورائي، فارجع فاخلُفني في أهلي وأهلک، أفلا ترضي يا عليّ أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟! فرجع عليّ إلي المدينة، ومضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي سفره.[6] .

239- الإرشاد- في غزوة تبوک: أوحي اللَّه تبارک وتعالي اسمه إلي نبيّه صلي الله عليه و آله أن يسير إليها بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلي حرب، ولا يُمني بقتال عدوّ، وأنّ الاُمور تنقاد له بغير سيف، وتَعبّده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميّزوا بذلک وتظهر سرائرهم.

فاستنفرهم النبيّ صلي الله عليه و آله إلي بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، وأشتدّ القيظ عليهم، فأبطأ أکثرهم عن طاعته؛ رغبةً في العاجل، وحرصاً علي المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدّة القيظ، وبُعد المسافة، ولقاء العدوّ. ثمّ نهض بعضهم علي استثقال

[صفحه 262]

للنهوض، وتخلّف آخرون.

ولمّا أراد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الخروج استخلف أميرالمؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: «يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بک»؛ وذلک أنّه عليه السلام علم من خبث نيّات الأعراب، وکثير من أهل مکّة ومن حولها ممّن غزاهم وسفک دماءهم، فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيِه عنها وحصوله ببلاد الروم أو نحوها، فمتي لم يکن فيها من يقوم مقامه، لم يؤمن من مَعَرَّتهم،[7] وإيقاع الفساد في دار هجرته، والتخطّي إلي ما يشين أهله ومخلّفيه.

وعلم عليه السلام أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلّا أميرالمؤمنين عليه السلام، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً.

وذلک فيما تظاهرت به الرواية أنّ أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام علي المدينة حسدوه لذلک، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنّها تنحرس به، ولا يکون للعدوّ فيها مطمع، فساءهم ذلک، وکانوا يؤثرون خروجه معه؛ لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي النبيّ صلي الله عليه و آله عن المدينة، وخلوّها من مرهوب مخوف يحرسها. وغبطوه عليه السلام علي الرفاهيّة والدعة بمقامه في أهله، وتکلُّف من خرج منهم المشاقّ بالسفر والخطر.

فأرجفوا به عليه السلام، وقالوا: لم يستخلفه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إکراماً له وإجلالاً ومودّة، وإنّما خلّفه استثقالاً له. فبهتوه بهذا الإرجاف کبهت قريش للنبيّ صلي الله عليه و آله بالجِنّة تارة،

[صفحه 263]

وبالشعر اُخري، وبالسحر مرّة، وبالکهانة اُخري، وهم يعلمون ضدّ ذلک ونقيضه، کما علم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به علي أميرالمؤمنين عليه السلام وخلافه، وأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله کان أخصّ الناس بأمير المؤمنين عليه السلام، وکان هو أحبّ الناس إليه، وأسعدهم عنده، وأفضلهم لديه.

فلمّا بلغ أميرالمؤمنين عليه السلام إرجاف المنافقين به، أراد تکذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبيّ صلي الله عليه و آله، فقال: يا رسول اللَّه، إنّ المنافقين يزعمون أنّک إنّما خلّفتني استثقالاً ومقتاً! فقال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: ارجع يا أخي إلي مکانک، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بک، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضي أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي!![8] .

[صفحه 265]



صفحه 260، 261، 262، 263، 265.





  1. المعجم الکبير: 5094:203:5، الطبقات الکبري: 24:3.
  2. الإرشاد: 155:1، کمال الدين: 25:278، الاحتجاج: 56:346:1، کنز الفوائد: 181:2 المستدرک علي الصحيحين: 3294:368:2.
  3. الطبقات الکبري: 23:3، اُسد الغابة: 3789:92:4.
  4. خصائص أميرالمؤمنين للنسائي: 45:107، المصنّف لابن أبي شيبة: 4:562:8، تاريخ الطبري: 104:3، أنساب الأشراف: 348:2، الاستيعاب: 1875:201:3.
  5. الطبقات الکبري: 24:3، أنساب الأشراف: 349:2، المعجم الکبير: 5094:203:5 نحوه وراجع خصائص أميرالمؤمنين للنسائي: 45:106.
  6. تاريخ الطبري: 103:3، السيرة النبويّة لابن هشام: 163:4، تاريخ الإسلام للذهبي: 631:2، الکامل في التاريخ: 636:1.
  7. المَعَرَّة: الجناية، والأذي (لسان العرب: 556:4).
  8. الإرشاد: 154:1.