نقل ونقد











نقل ونقد



ذکرنا مراراً عند نقلنا للأحاديث المرتبطة بالفضائل العلويّة أنّ إنکار فضائل الإمام عليه السلام والسعي لمحوها من صفحات التاريخ وأذهان الناس- لبواعث مختلفة وأسباب متنوّعة- دأب أعداء الحقّ علي مرّ التاريخ. وقد کان عمرو بن بحر الجاحظ (م 255 ه) ممّن عزف علي وتر هذه النغمة اللاموزونة- بشأن هذه الفضيلة العظيمة- وحاول أن يُنکر فضيلة المبيت علي فراش النبيّ صلي الله عليه و آله، ويسعي إلي تقليل وهجها الباهر المتألّق بزعمه وظنّه الباطل؛ فقد قال في رسالته الصغيرة المسمّاة بالعثمانيّة:

لم يکن له في ذلک کبير طاعةٍ؛ لأنّ الناقلين نقلوا أنّه صلي الله عليه و آله قال له: «نَم؛ فلن يخلص إليک شي ء تکرهه».[1] .

و منهم ابن تيميّة الذي لم يألُ جهداً، ولم يدّخر وسعاً في تقليل شأن فضائل الإمام عليه السلام وآل اللَّه، فعطف علي ما سبق قوله:

وأيضاً فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قد قال: «اتّشحْ ببردي هذا الأخضر، فنم فيه؛ فإنّه لن يخلص إليک منهم رجل بشي ء تکرهه» فوعده- وهو الصادق- أنّه لا يخلص إليه

[صفحه 174]

مکروه؛ وکان طمأنينته بوعد الرسول صلي الله عليه و آله.[2] .

ولنا عليهما:

1- إنّ الآية الکريمة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي...» کما ذکرنا مصادرها الکثيرة في تضاعيف کتابنا نزلت في عليّ عليه السلام،[3] لتدلّ علي عظمة هذه الحادثة، وهذا ما لا يدع مجالاً للشکّ والترديد. وهکذا أطلق اللَّه تعالي علي عمل الإمام عليه السلام تعبير «شراء النفس»، ودعا الملائکة لملاحظة هذا الإيثار الرائع، بَيْد أنّ الجاحظ، وابن تيميّة اجتهدا في مقابل النصّ، ولم يعدّا ذلک «شراء نفسٍ»، وأنکرا کونه فضيلةً، بذريعةٍ واهية تتلخّص في أنّه عليه السلام کان يعلم أنّه لا يصل إليه مکروه.

2- إنّ الکلام الذي تشبّث به هذان الشخصان وهو قوله: «إنّهم لن يصلوا إليک بشي ء تکرهه» لم يرد في معظم المصادر التاريخيّة المهمّة التي يشار إليها بالبنان، کما لم يرد في المصادر الشيعيّة. وسنذکر أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قال له هذا القول بعد المبيت، وبعدما أوصاه بأداء الأمانات في الغار. وهکذا يستقيم کلام الإسکافي المعتزلي ويصمد شامخاً، إذ قال في نقد کلام الجاحظ:

«هذا هو الکذب الصراح، والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها...».[4] .

3- ذکرنا سابقاً أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال هذا الکلام وأمر عليّاً عليه السلام بأداء الأمانات في إحدي ليالي إقامته في الغار، بعد حادثة المبيت، ونقل الشيخ الطوسي

[صفحه 175]

رضوان اللَّه عليه هذا القسم من الحادثة بالشکل الآتي:

فأمر صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام، فأقبضه الثمن، ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته... وقال: «... إنّهم لن يصلوا من الآن إليک يا عليّ بأمر تکرهه...».[5] .

4- في ضوء بعض المعلومات التاريخيّة: لمّا هجم المشرکون علي الدار صباحاً، ورأوا عليّاً عليه السلام في الفراش، وأيِسوا من مؤامرتهم المشؤومة، اصطدموا بالإمام عليه السلام، وقبل ذلک رموه بالحجارة غير مرّة. قال الإسکافي:

ولو کان هذا صحيحاً لم يصل إليه منهم مکروه، وقد وقع الاتّفاق علي أنّه ضُرب ورُميَ بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتي تضوّر، وأنّهم قالوا له: رأينا تضوّرک؛ فإنّا کنّا نرمي محمّداً ولا يتضوّر.[6] .

وقال الطبري: فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلي المسجد فحبسوه ساعةً ثمّ ترکوه.[7] .

فإذا کان عدم وصول المکروه إليه بوعد من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قبل مبيته في فراش النبيّ صلي الله عليه و آله لکان ينبغي عدم وصول شي ء من الضرر والأذي إليه أصلاً!

وأشار الإمام عليه السلام في کلامٍ له إلي هذا الاصطدام وقال: «وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعتُ إلي ذلک مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن اُقتل دونه».[8] .

[صفحه 176]

وأوضح من ذلک کلّه شعر لطيف للإمام عليه السلام نفسه في وصف هذه الفضيلة الرفيعة:


وقيتُ بنفسي خيرَ من وطئ الحصا
ومن طافَ بالبيتِ العتيق وبالحِجْرِ


رسول إله خاف أن يمکروا بهِ
فنجّاهُ ذو الطول الإله من المکْرِ


وبات رسولُ اللَّهِ في الغارِ آمناً
موقّيً وفي حفظ الإله وفي ستْرِ


وبتُّ اُراعيهم ولم يتّهمونني
وقد وطنتْ نفسي علي القتل والأسْرِ[9] .


نلحظ الإمام عليه السلام في هذه الأبيات يصرّح بمبيته في فراش النبيّ صلي الله عليه و آله، واستعداده للقتل، والأسر، وتفانيه في سبيل المحافظة علي حياته صلي الله عليه و آله.

[صفحه 177]



صفحه 174، 175، 176، 177.





  1. شرح نهج البلاغة: 262:13.
  2. منهاج السنّة: 116:7.
  3. راجع: القسم التاسع/عليّ عن لسان القرآن/الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللَّه.
  4. شرح نهج البلاغة: 263:13.
  5. الأمالي للطوسي: 467 و 1031:468.
  6. شرح نهج البلاغة: 263:13.
  7. تاريخ الطبري: 374:2، الکامل في التاريخ: 516:1، تاريخ الخميس: 325:1، بحارالأنوار: 6:39:19، الصحيح من سيرة النبيّ: 38:4.
  8. الخصال: 14:2، بحارالأنوار: 7:46:19.
  9. المستدرک علي الصحيحين: 4264:5:3، تذکرة الخواصّ: 35؛ الغدير: 48:2.