الموازرة علي الدعوة











الموازرة علي الدعوة



بدأت الدعوة سرّية، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوت إليها أفئدة ثلّة من الناس، إقبالاً منها علي تلک الرسالة الحقّة. وکان عليّ عليه السلام أوّل من آمن بها من الرجال، وشهد بنبوّة محمّد صلي الله عليه و آله،[1] ثمّ تبعه آخرون....

وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الکريمة: «وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَکَ الْأَقْرَبِينَ»[2] إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبيّ الأقربين.

فأمر النبيّ صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام بإعداد الطعام وإقامة مأدبة خاصّة؛ ليجتمع آل عبدالمطّلب، فيبلّغهم النبيّ صلي الله عليه و آله برسالته، وفي اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلک بسبب ضجيج أبي لهب ولغطه، ثمّ أعاده عليهم في غد ذلک اليوم، وبعد فراغهم من الطعام بدأ کلامه بحمداللَّه تعالي وقال:

[صفحه 142]

«إنّ الرائد لا يکذب أهله و...»

و انتهي کلامه، ولم ينهض معلناً عن متابعته ومرافقته صلي الله عليه و آله والإيمان برسالته الإلهيّة إلّا عليّ عليه السلام؛ حيث قام وصدح بذلک، فأجلسه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وتکرّر هذا الموقف في للمرّة الثانية والثالثة، فقال صلي الله عليه و آله:

«اجلس؛ فأنت أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي من بعدي»،

وخاطب الحاضرين بقوله:

«إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي عليکم؛ فاسمعوا له وأطيعوه».

إلّا أنّ ذوي الضمائر السود، والقلوب العليلة، والأبصار العمي، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ، ولجّوا وکابروا وعتَوا عن الکلام النبويّ، بل إنّهم اتّخذوا أباطالب سخريّاً. لکنّ الحقّ علا، وطار کلامه صلي الله عليه و آله في الآفاق طلقاً من ذلک النطاق الضيّق، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عظمي إلي جانب فضائله عليه السلام، وتبلور سند متين لإثبات ولايته إلي جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة، وأعلن النبيّ صلي الله عليه و آله عمليّاً وحدة النبوّة والولاية في الاتّجاه والمسير وتلازمها، ودلّ الجميع في اليوم الأوّل من الجهر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده، وأودع ذلک ذمّة التاريخ، والمهمّ هو تبيان موقع الکلام النبويّ.

و قال صلي الله عليه و آله کلمته: «فاسمعوا له وأطيعوه» في وقت کانت قريش قد تصامّت عن سماع کلامه ولم تعره آذانا صاغية، فمن البيّن أنّ هذا الکلام کان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته صلي الله عليه و آله، ويعتقد بحجّيّة کلامه.

109- الإمام عليّ عليه السلام: لمّا نزلت هذه الآية علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَکَ الْأَقْرَبِينَ» دعاني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال لي: يا عليّ، إنّ اللَّه أمرني أن اُنذر عشيرتي

[صفحه 143]

الأقربين، فضقتُ بذلک ذرعاً، وعرفت أنّي متي اُباديهم بهذا الأمر أري منهم ما أکره، فصمتُّ عليه حتي جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّک إن لا تفعلْ ما تؤمر به يعذّبک ربّک. فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسّاً[3] من لبن، ثمّ اجمع لي بني أعبدالمطّلب حتي اُکلّمهم واُبلّغهم ما اُمرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبوطالب وحمزة والعبّاس وأبولهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حِذْيةً[4] من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصَّحْفة.[5] .

ثمّ قال: خذوابسم اللَّه، فأکل القوم حتي ما لهم بشي ء حاجة وما أري إلّا موضع أيديهم، وايم اللَّه الذي نفس عليّ بيده، وإن کان الرجل الواحد منهم ليأکل ما قدّمتُ لجميعهم.

ثمّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلک العسّ، فشربوا منه حتي رووا منه جميعاً، وايم اللَّه إن کان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يکلّمهم بدره أبولهب إلي الکلام، فقال: لَهَدّ[6] ما سحرکم صاحبکم! فتفرّق القوم ولم يکلّمهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: الغدُ يا عليّ، إنّ هذا الرجل سبقني إلي ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اُکلّمهم، فعُدْ لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إليّ.

[صفحه 144]

قال: ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل کما فعل بالأمس، فأکلوا حتي ما لهم بشي ء حاجة.

ثمّ قال: اسقهم، فجئتهم بذلک العسّ، فشربوا حتي رووا منه جميعاً، ثمّ تکلّم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: يا بني أعبدالمطّلب! إنّي واللَّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتکم به؛ إنّي قد جئتکم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه تعالي أن أدعوکم إليه، فأيّکم يؤازرني علي هذا الأمر علي أن يکون أخي ووصيّي وخليفتي فيکم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت:... أنا يا نبيّ اللَّه، أکون وزيرک عليه، فأخذ برقبتي، ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيکم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحکون ويقولون لأبي طالب: قد أمرک أن تسمع لابنک وتطيع.

[صفحه 145]

وخليفتي فيکم بعدي.[7] .

111 - شرح نهج البلاغة عن أبي جعفر الإسکافي: قد روي في الخبر الصحيح أنّه صلي الله عليه و آله کلّفه عليه السلام في مبدأ الدعوة قبل ظهور کلمة الإسلام وانتشارها بمکّة أن يصنع له طعاماً، وأن يدعو له بني أعبدالمطّلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا ذلک اليوم، ولم ينذرهم صلي الله عليه و آله؛ لکلمة قالها عمّه أبولهب، فکلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلک الطعام، وأن يدعوهم ثانية، فصنعه، ودعاهم فأکلوا.

ثمّ کلّمهم صلي الله عليه و آله فدعاهم إلي الدين، ودعاه معهم؛ لأ نّه من بني أعبدالمطّلب، ثمّ ضمن لمن يؤازره منهم وينصره علي قوله أن يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسکوا کلّهم وأجابه هو وحده، وقال: أنا أنصرک علي ما جئت به، واُوازرک واُبايعک، فقال لهم- لمّا رأي منهم الخذلان، ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة: هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي، فقاموا يسخرون ويضحکون، ويقولون لأبي طالب: أطِع ابنک؛ فقد أمّره عليک.[8] .

112- الإرشاد: إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله جمع خاصّة أهله وعشيرته في ابتداء الدعوة إلي الإسلام، فعرض عليهم الإيمان، واستنصرهم علي أهل الکفر والعدوان، وضمن لهم علي ذلک الحظوة في الدنيا، والشرف وثواب الجنان، فلم يجبه أحد منهم إلّا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فنحله بذلک تحقيق الاُخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة، وأوجب له به الجنّة.

[صفحه 146]

وذلک في حديث الدار، الذي أجمع علي صحّته نُقّاد الآثار، حين جمع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بني أعبدالمطّلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلاً، يومئذٍ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذکره الرواة، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد کان الرجل منهم معروفاً بأکل الجذْعة[9] في مقام واحد، ويشرب الفَرَق[10] من الشراب في ذلک المقام، وأراد عليه السلام بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريّهم ممّا کان لا يُشبع الواحد منهم ولا يرويه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأکلت الجماعة کلّها من ذلک اليسير حتي تملّؤوا منه، فلم يَبِن ما أکلوه منه وشربوه فيه، فبهرهم بذلک، وبيّن لهم آية نبوّته، وعلامة صدقه ببرهان اللَّه تعالي فيه.

ثمّ قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: يا بني أعبدالمطّلب! إنّ اللَّه بعثني إلي الخلق کافّة، وبعثني إليکم خاصّة، فقال عزّوجلّ: «وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَکَ الْأَقْرَبِينَ» وأنا أدعوکم إلي کلمتين خفيفتين علي اللسان ثقيلتين في الميزان، تملکون بهما العرب والعجم، وتنقاد لکم بهما الاُمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّي رسول اللَّه، فمن يجبني إلي هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلي القيام به، يکن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يجب أحد منهم.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: فقمت بين يديه من بينهم... فقلت: أنا- يا رسول اللَّه- اُؤازرک علي هذا الأمر، فقال: اجلس، ثمّ أعاد القول علي القوم ثانية فاُصمتوا،

[صفحه 147]

وقمت فقلت مثل مقالتي الاُولي،فقال: اجلس. ثمّ أعاد علي القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا اُؤازرک- يا رسول اللَّه- علي هذا الأمر، فقال: اجلس؛ فأنت أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي.

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أباطالب! لِيَهْنِک اليوم إن دخلت في دين ابن أخيک؛ فقد جعل ابنک أميراً عليک.[11] .

نکتة:

جاء في بعض النصوص التاريخيّة والحديثيّة: أنّ نزاعاً وقع بين الإمام أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام والعبّاس بن عبدالمطّلب بعد وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله علي إرثه؛ فزعم العبّاس أنّ أموال النبيّ صلي الله عليه و آله له؛ فتحاکما إلي أبي بکر، فخاطب أبوبکر العبّاس مشيراً إلي يوم الدار، وقال:

«أنشدک اللَّه، هل تعلم أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله جمع بني عبدالمطّلب وأولادهم وأنت فيهم، وجمعکم دون قريش فقال: يا بني أعبدالمطّلب! إنّه لم يبعث اللَّه نبيّاً إلّا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً في أهله، فمن يقوم منکم يبايعني علي أن يکون أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في أهلي؟... فقام عليّ من بينکم فبايعه علي ما شرط له ودعاه إليه. أتعلم هذا له من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ قال: نعم».[12] .

[صفحه 148]

حيث يُستشفّ من هذا الخبر أنّ أبابکر کان يعرف قضيّة «إنذار العشيرة» ويعلم ويعترف بها ويراها حجّةً. وأصل هذه الحادثة وطرح الدعوي بالشکل المذکور يثير التساؤل؛ فالنقطة التي لم يُلْتَفَتْ إليها هي: لماذا رجع الإمام عليه السلام وعمّه العبّاس إلي الخليفة؟ وهل هذا الخلاف صحيح من أساسه؟ فقد کان للنبيّ صلي الله عليه و آله عند وفاته بنت، وزوجات أيضاً، فلا نصيب للعمّ وابن العمّ حتي يدّعيا االإرث... ومن الواضح أنّ أمواله صلي الله عليه و آله تؤول إلي بنته الطاهرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، وبعد استشهادها تنتقل إلي أولادها، فأصل ادّعاء العبّاس بن عبدالمطّلب لا يصحّ، فلِمَ ادّعي ذلک إذن وتحاکم إلي الخليفة؟

نُقل عن أبي رافع أنّ العبّاس قال لأبي بکر بعد کلامه المذکور:

«فما أقعدک مجلسک هذا؟ تقدّمته وتأمّرت عليه! فقال أبوبکر: أغدراً يا بني عبدالمطّلب!».[13] .

نفهم من هذا النصّ أنّ العبّاس قد افتعل بذکاء هذا الموضوع، ليذکّر أبابکر بمن هو أهل للخلافة، وينبزه بابتزازها. ومثل هذه التصرّفات کانت تنتشر وتشتهر بسرعة لمکانة العبّاس ومنزلته. وهکذا أيضاً کان حوار أعبداللَّه بن عبّاس وعمر بن الخطّاب؛ فقد ذکّر ابن عبّاس عمر بأهليّة الإمام أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام للخلافة، فغضب عمر، وقال:

«إليک يا بن عبّاس! أتريد أن تفعل بي کما فعل أبوک وعليّ مع أبي بکر يوم دخلا عليه؟».[14] .

[صفحه 149]



صفحه 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149.





  1. راجع: القسم العاشر:الخصائص العقائديّة:أوّل من أسلم.
  2. الشعراء: 214.
  3. العُسّ: القدح الکبير (النهاية: 236:3).
  4. الحِذْية: أي قطعة. قيل: هي- بالکسر- ما قطع من اللحم طولاً (النهاية: 357:1).
  5. الصَّحْفَة: إناء کالقَصْعة المبسوطة ونحوها (النهاية: 13:3).
  6. لَهَدّ: کلمة يُتعجّب بها (النهاية: 250:5).
  7. علل الشرائع: 2:170 عن أعبداللَّه بن الحارث بن نوفل وراجع کنز العمّال: 36371:114:13.
  8. شرح نهج البلاغة: 244:13.
  9. الجَذَع: من أسنان الدوابّ؛ وهو ما کان شابّاً فتيّاً (النهاية: 250:1).
  10. الفَرَق: مکيال يسع ستة عشر رِطلاً؛ وهي اثنا عشر مُدّاً (النهاية: 437:3).
  11. الإرشاد: 48:1، کشف اليقين: 25:47، إعلام الوري: 322:1؛ السيرة الحلبيّة: 286:1.
  12. تاريخ دمشق: 8382:50:42، شواهد التنزيل: 545:1، نهج الإيمان: 240؛ شرح الأخبار: 50:122:1، الاحتجاج: 43:230:1، الدرجات الرفيعة: 91، بشارة المصطفي: 220.
  13. المناقب لابن شهر آشوب: 49:3، المسترشد: 249:577.
  14. تاريخ اليعقوبي: 149:2.