زينب











زينب



حاملة رسالة دماء الشهداء، وحاکية الملحمة الحسينيّة، وفاضحة الأشقياء المدلّسين الناشرين للظلم، ومظهر الوقار، ورمز الحياء، ومثال العزّ والرفعة، واُسوة الثبات والصلاة والصبر.

وبلغت منزلتها الرفيعة ومکانتها السامية في البيت النبوي مبلغاً يعجز القلم عن بيانه، ويحسر عن تبيان مکارمها ومناقبها وفضائلها عليهاالسلام.

وقد رسم الفقيه المؤرّخ المصلح الکبير العلّامة السيّد محسن الأمين العاملي معالم شخصيّتها بقوله:

کانت زينب عليهاالسلام من فضليات النساء، وفضلها أشهر من أن يُذکر، وأبين من أن يسطَّر. وتعلم جلالة شأنها وعلوّ مکانها، وقوّة حجّتها، ورجاحة عقلها، وثبات جنانها، وفصاحة لسانها، وبلاغة مقالها- حتي کأنّها تُفرغ عن لسان أبيها أميرالمؤمنين عليه السلام- من خطبها بالکوفة والشام، واحتجاجها علي يزيد وابن زياد بما فحمهما، حتي لجآ إلي سوء القول والشتم وإظهار الشماتة والسباب الذي هو سلاح العاجز عن إقامة الحجّة. وليس عجيباً من زينب الکبري أن تکون کذلک وهي فرع من فروع الشجرة الطيّبة....

وکانت متزوّجة بابن عمّها أعبداللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وولد له منها: عليّ الزينبي، وعون، ومحمّد، وعبّاس، واُمّ کلثوم. وعون ومحمّد قُتلا مع خالهما الحسين عليه السلام بطفّ کربلاء.

[صفحه 123]

سُمّيت اُمّ المصائب، وحقّ لها أن تسمّي بذلک! فقد شاهدت مصيبة وفاة جدّها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ومصيبة وفاة اُمّها الزهراء عليهاالسلام ومحنتها، ومصيبة قتل أبيها أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام ومحنته... وحُملت أسيرة من کربلاء.[1] .

کانت عليهاالسلام مع أخيها الحسين عليه السلام منذ بدء الثورة، وکانت رفيقة دربه وأمينة سرّه. فليلة عاشوراء وحوارها مع أخيها، ويوم عاشوراء وحفاوتها بالشهداء، وليلة الحادي عشر ورثاؤها المؤلم لأخيها، وجلوسها عند جثمانه المدمّي، وخطابها لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله، کلّ اُولئک من الصفحات الذهبيّة الخالدة في حياتها المليئة بالجلالة والرفعة، المصطبغة بالصبر والجلد.

تولّت شؤون السبايا بعد عاشوراء بجلال وثبات، وعندما رأت الکوفيّين يبکون علي أبناء الرسول صلي الله عليه و آله خاطبتهم قائلة:

يا أهل الکوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل! ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة! إنّما مَثَلکم کمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنکاثاً!... أتدرون- ويلکم!- أيَّ کبدٍ لمحمّد صلي الله عليه و آله فَرَيتم؟![2] وأيَّ عهد نکثتم؟! وأيَّ کريمة له أبرزتم؟! وأيَّ حرمةٍ له هتکتم؟! وأيَّ دمٍ له سفکتم؟![3] .

کان لها لسان عليّ حقّاً! وحين نطقت بکلماتها الحماسيّة، فإنّ اُولئک الذين طالما سمعوا خطب الإمام، هاهم يرونه باُمّ أعينهم يخطب فيهم!

[صفحه 124]

وقال قائل: واللَّه لم أرَ خَفِرةً[4] قطّ أنطق منها، کأنّها تنطق وتُفرغ عن لسان عليّ عليه السلام.

وکان ابن زياد قد أثمله التکبّر، ومَرَد علي الضراوة والتوحّش، فنال من آل اللَّه؛ فانبرت إليه الحوراء وألقمته حجراً بکلماتها الخالدة التي أخزته. وممّا قالت:

لَعمري لقد قتلتَ کَهلي، وأبَرتَ أهلي، وقطعتَ فرعي، واجتثثتَ أصلي؛ فإن يشفِک هذا فقد اشتفيت.[5] .

وعندما نظرت إلي يزيد متربّعاً علي عرش السلطة ومعه الأکابر ومندوبون عن بعض البلدان- وکان يتباهي بتسلّطه، ويتحدّث بسفاهة مهوِّلاً علي الآخرين، ناسباً قتل الأبرار إلي اللَّه- قامت إليه عقيلة بني هاشم، فصکّت مسامعه بخطبتها البليغة العصماء. وممّا قالته فيها:

أمِن العدل- يابن الطُّلَقاء- تَخديرک حرائرَک وإماءک، وسوقُک بنات رسول اللَّه سبايا! قد هتکتَ ستورهنّ، وأبديتَ وجوههنّ، يحدو بهنّ الأعداء من بلد إلي بلد؟![6] .

وبتلک الکلمات القصيرة الدامغة ذکّرته بماضي أهله حين قُبض عليهم أذلّاء في مکّة ثمّ اُطلقوا بعد أن أسلموا خائفين من بارقة الحقّ، فدلّت علي عدم

[صفحه 125]

جدارته للحکم من جهة، وعلي جوره ونشره للظلم من جهة اُخري. واستَشهدت أخيراً بآيات قرآنيّة لتعلن بصراحة أنّ موقعه ليس کرامة إلهيّة- کما زعم أو حاول أن يلقّن الناس به- بل هو انغماس ملوّث بالکفر في أعماق الجحود، وزيادة في الکفر، وأمّا الشهادة فهي کرامة لآل اللَّه....

کانت خطب زينب الکبري في ذروة الفصاحة والبلاغة والتأثير، کما کانت حکيمة في تشخيص الموقف المناسب.

ولمّا اُرجعت إلي المدينة لم تتوقّف لحظة عن الاضطلاع برسالة الشهداء، وتنوير الرأي العام، وتوعية الناس وإطلاعهم علي ظلم بني اُميّة، فاضطرّ حاکم المدينة إلي نفيها بعد أن استشار يزيد في ذلک.

فاضت روحها الطاهرة وهي في الثانية والستّين من عمرها. أمّا قبرها فمثار جدال ونقاش.

98- اُسد الغابة- في ترجمة زينب عليهاالسلام-: أدرکت النبيّ صلي الله عليه و آله، وولدت في حياته، ولم تلد فاطمة بنت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بعد وفاته شيئاً. وکانت زينب امرأة عاقلة لبيبة جزلة،[7] زوّجها أبوها عليّ عليه السلام من أعبداللَّه ابن أخيه جعفر، فولدت له عليّاً، وعوناً الأکبر، وعبّاساً، ومحمّداً، واُمّ کلثوم. وکانت مع أخيها الحسين عليه السلام لما قُتل، وحُملت إلي دمشق، وحضرت عند يزيد بن معاوية، وکلامها ليزيد- حين طلب الشامي اُختها فاطمة بنت عليّ من يزيد- مشهور مذکور في التواريخ، وهو يدلّ علي عقل وقوّة جنان.[8] .

[صفحه 126]



صفحه 123، 124، 125، 126.





  1. أعيان الشيعة: 137:7.
  2. الفَرْي: القطع (النهاية: 442:3).
  3. الاحتجاج: 170:110:2، الأمالي للمفيد: 8:321، الملهوف: 192، المناقب لابن شهر آشوب: 115:4.
  4. الخَفِر: الکثير الحياء (النهاية: 53:2).
  5. تاريخ الطبري: 457:5، الکامل في التاريخ: 575:2 وفيه «أبرزت» بدل «أبرت»؛ الإرشاد: 116:2 وفيه «أبدت» بدل «أبرت»، إعلام الوري: 472:1.
  6. الاحتجاج: 173:125:2، الملهوف: 215؛ مقتل الحسين للخوارزمي: 64:2، بلاغات النساء: 35 نحوه.
  7. جَزْلة: أي تامّة الخَلْق، وذات کلام جَزْل: أي قويّ شديد (النهاية: 270:1).
  8. اُسد الغابة: 6969:134:7، الإصابة: 11267:166:8 نحوه.