قال رسول اللَّه: عليّ آيةُ الحقّ، و راية الهدي











قال رسول اللَّه: عليّ آيةُ الحقّ، و راية الهدي



ماذا أقول في عليّ عليه السلام والحديث عنه صعب شاقّ؟! ثمّ هو أصعب إذا ما رامت الکلمات أن تتسلّق صوب ذراه الشاهقة، وتطمع أن تکون خليقة بتلک الشخصيّة المتألّقة. النظر إلي شخصيّة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام محنة للفکر. وتملّي أبعاد هذا الرجل الشاهق يتطلّب طاقة لا تحتملها إلّا الجبال الرواسي. أمّا الحديث عن بعض عظمته الباهرة، وما تحظي به هذه الشخصيّة المتوهِّجة في التاريخ الإنساني من جلال وجمال، فهو خليق بکلام آخر، ويحتاج

[صفحه 10]

إلي لغة اُخري؛ لغة تتناهي في امتدادها حتي تبلغ «الوجود» سعة، عساها- عندئذٍ- أن تُدرک شيئاً ضئيلاً من کلّ هذه الفضيلة التي تُحيط تلک الشخصيّة «العملاقة»، وما يحظي به من سموّ ومناقب لا نظير لها، ثمّ عساها أن تؤلّف کلاماً يرتقي إلي مدي هذا الإنسان الإلهي، ويکون جديراً به.

أمّا اُولئک الذين سلّحتهم بصيرتهم بفکر نافذ عن الإمام، وأدرکوا- إلي حدّ ما- أبعاده الوجوديّة؛ فما لبثوا أن اضطرموا بمحنة العجز وقد لاذوا بالصمت، ثمّ ما برحوا يجهرون أنّ هذا الصمت لم يکن إباءً عن إظهار فضائل الإمام بقدر ما کان ينمّ عمّا اعتورهم من عجز، وهو إلي ذلک ينبئ عن حيرة استحوذت عليهم وهم لا يدرون کيف يصبّون کلّ هذه الفضائل العَليّة في حدود الکلمات، وکيف يعبّرون عن معانيها البليغة من خلال الألفاظ!

أجل، لم يکن قلّة اُولئک الذين اُشربوا في أعماق نفوسهم هذا المعني الرفيع للمتنبي، وهو يصدع:


وترکتُ مدحي للوصيّ تعمُّداً
إذ کان نوراً مستطيلاً شاملا


وإذا استطال الشي ء قام بنفسهِ
وصفاتُ ضوء الشمس تذهبُ باطلا


مَنْ يريد أن يتحدّث عن جلال عليّ وفضائله يستبدّ به العجز، وتطوّقه الحيرة؛ فلا يدري ما يقول!

هي محنة کبيرة لا تستثني أحداً؛ أن ينطق الإنسان بکلام يرتفع إلي مستوي هذه «الظاهرة الوجوديّة المذهلة»؛ وهو عجز کبير مدهش يعتري

[صفحه 11]

الجميع مهما کانت القابليّة وبلغ الاستعداد.

ولا ريب أنّ أباإسحاق النظّام کان قد لبث يفکِّر طويلاً، وطوي نفسه علي تأمّلٍ عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصيّة ومکوّناتها، قبل أن يقول: «عليّ بن أبي طالب عليه السلام محنة علي المتکلِّم؛ إن وفّاه حقّه غلا، وإن بخسه حقّه أساء!».

عليٌّ عليه السلام في سوح القتال اللاحبة هو الأکثر جهاداً، والأمضي عزماً، والأشدّ توثّباً. وهو في مضمار الحياة الوجهُ المفعم بالاُلفة؛ حيث لا يرتقي إليه إنسان بالخلق الرفيع. وفي جوف الليل الأوّاب المتبتِّل، أعبد المتبتِّلين، وأکثر القلوب ولَهاً بربّه. وبإزاء خلق اللَّه هو أرفق إنسان علي هذه البسيطة بالإنسان، يفيض بالعطوفة واللين. وهو الأصلب في ميدان إحقاق الحقّ في غير مداجاة، المنافح عنه في غير هروب.

أمّا في البلاغة والتوفّر علي بدائع الخطابة وضروب الحکمة وفنون الکلام، فليس له نظير؛ وهو فارس هذا الميدان، والأمکن فيه من کلّ أحد. وللَّه درّ الشاعر العلوي، وهو يقول في ذلک:


کم له شمس حکمة تتمنّي
غرّةُ الشمس أن تکون سماها


تُري، هل يمکن لإنسان أن يُشرِف علي منعرجات التاريخ، ولا تشدّه تلک القمّة الشاهقة في مضمار الکرامة والحريّة والإنسانيّة، وهي تسمو علي کلّ ما سواها!

وهل يسوغ لإنسان أن يمدّ بصره إلي صحراء الحياة، ثمّ لا يرفرف

[صفحه 12]

قلبه صوب هذا المظهر المتألِّق بالحبّ والعبادة، المملوء بالجهاد والمروءة، أو لا يُبصر هذا المثال المترع بالصدق والإيثار، وبالإيمان والجلال!

ثمّ هل يمکن لکاتب أن يخطّ صفحات بقلمه، ولا يهوي فؤاده أن يعطّر بضاعته بعبير يتضوّع بذکر عليّ، ويخلط کلماته بشذيً يفوح بنسائم حياته التي يغمرها التوثّب، ويحيط بها الإقدام من کلّ حدب، ويجلّلها الجهاد والإيثار من کلّ صوب!

في ظنّي أنّ جميع اُولئک الذين فکّروا وتأمّلوا، ثمّ استذاقوا طعم هذه الظاهرة الوجوديّة المذهلة، إنّما يخامرهم اعتقاد يفيد: وأنّي للقطرة الوحيدة التائهة أن تُثني علي البحر! وأنّي للذرّة العالقة أن تنشد المديح بالشمس!

وأمّا کاتب هذه السطور!

فلم يکن يدُر بخلده قطّ أن يخطّ يوماً کلاماً جديراً في وصف تلک الشمس الساطعة، کما لم يخطر بباله أبداً أن يکون له حظّ في حمل قبضة من قبس کتلة الحقّ المتوهِّجة تلک، أو أن يکون له نصيب في بثّ شي ءٍ من أريج بحر فضائلها الزخّار، وأن يُسهِم في نشر أثارة من مناقبها المتضوّعة بعبيرٍ فوّاح.

هکذا دالت الحال ومرّت الأيّام بانتظار موعد في ضمير الغيب مرتقب! فقد قُدِّر لي وأنا أشتغل بتدوين «ميزان الحکمة» أن اُلقي نظرة من بعيد

[صفحه 13]

علي هذا البحر الزخّار، بحکم ضرورة أملتها هيکليّة الکتاب، وساقت منهجيّاً إلي مدخلٍ بعنوان: «الإمامة».

أجل، لم يسمح «المدخل» بأکثر من نظرةٍ من بعيد إلي البحر اللجّي، أطلّت علي شخصيّة الإمام الأخّاذة عبر الکلام الإلهي والنبوي، قد سمحت بتثبيت ومضات من سيرة ذلک العظيم علي أساس ما تحکيه روايات المعصومين عليهم السلام.

مرّة اُخري شاء التقدير الإلهي أن تتّسع موسوعة «ميزان الحکمة» (التي تجدّد طبعها- بفضل اللَّه- مرّات، وراحت تتخطّي الحدود وتصل إلي أقصي النقاط، وهي تستجيب بقدرها لتطلّعات الباحثين عن المعرفة الدينيّة) وتمتدّ فصولها وتزداد.

بعد تأمّلٍ طويل انطلقت بکاتب هذه السطور همّتُه، وتبدّل العزم إلي قرار بالعمل يقضي بإضافة هذا الجزء.

کانت الرحلة بعيدة المدي، وبدا الطريق طويلاً وأنا حديث العهد به، لولا أن تدارکتني رعاية خاصّة من الإمام، ولا غَروَ وهو کهف السائرين علي الحقّ وملاذهم، ثمّ اکتنفتني همم کبيرة برزت من فضلاء کرام.

وبين هذا وذاک أينع ذلک الجهد وأثمر بعد سنوات حصيلةً تحمل عنوان: «موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب في الکتاب والسنّة والتاريخ» هي ذي التي بين أيديکم.

ثمّ شاءت المقادير مرّة اُخري أن يقترن طبع الموسوعة في السنة التي

[صفحه 14]

توشّحت باسم مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث راحت هذه المناسبة تستقطب إليها اُلوف الجهود والهمم.[1] .

وها أنا ذا أتوجّه إلي اللَّه سبحانه شاکراً أنعُمَه من أعماق وجودي وقد حالفني توفيقه في المضيّ قُدماً لإنجاز هذا المشروع المهمّ؛ حيث هوّن العقبات، وذلّل الصِّعاب، ويسّر العسير.

إنّ «موسوعة الإمام» لهي إلي هذا العاشق الوله بذکر عليّ عليه السلام أعذب شي ء في حياته وأحلاه، وأدعي حصيلة تبعث علي الفخر في سنيّ عمره، حيث بلغت نهايتها بفضل اللَّه سبحانه، ومعونة خالصة أسداها عدد من الفضلاء.

أجل؛ إنّ «موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب» تجسِّد من الاُمنيات في حياتي ما هو أرفعها وأسماها، وتستجيب من تطلّعاتي إلي ما هو أبعدها مديً.

وما کان ذلک يتحقّق لولا فضل اللَّه وتوفيقه، فله حمدي، وعليه ثنائي اُزجيه خاشعاً بکلّ وجودي.

وما کان ليتمّ لولا رعاية خاصّة کنفني بها المولي أميرالمؤمنين، فله شکري، وعليه سلامي، فلولا ما فاء به من رعاية وتسديد، ولولا مدده

[صفحه 15]

الذي أسداه في تذليل العقبات الکؤود وتيسيرها لما رسَت «الموسوعة» علي هذا الشکل.

وحسبُ هذه الکلمات أنّها رسالة اعتذار تومئ إلي تقصير صاحبها، ثمّ حسبها ما تُبديه من ثناء عاطر مقرون بالخشوع والجلال لکلّ هذه الرعاية الحافلة من أجل بلوغ المقصد.

إنّ «موسوعة الإمام» هي إطلالة علي حياة أميرالمؤمنين عليه السلام، کما هي نافذة تشرف علي السيرة العلويّة، وتتطلّع إلي تاريخ حياة أکمل إنسان، وأعظم المؤمنين وأبرز شخصيّة في تاريخ الإسلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

وتهدف «موسوعة الإمام» أن تترسّم السبيل إلي أعظم تعاليم عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأبلغها عِظة وتذکيراً. کما توفّرت علي بيان أجزاء من حياة أميرالمؤمنين عليه السلام وسيرته البيضاء الوضّاءة.

وتسعي «موسوعة الإمام» من خلال استجلاء المعالم الملکوتيّة لإمام الإنسانيّة؛ وتتطلّع عبر تدوين الخصائص العلميّة والأخلاقيّة والعمليّة لحياته التي تفيض بالتوثّب والإيمان؛ وتصبو عبر تبيين ما بذله «صوت العدالة الإنسانيّة» من جهود مذهلة لبسط العدل وإرساء حاکميّة الحقّ، إلي الجواب عمليّاً علي السؤال التالي: لماذا جعل الکتابُ الإلهي عليَّ بن أبي طالب شاهداً إلي جوار اللَّه علي الرسالة؟

لقد انطلقت «الموسوعة» من خلال الاستناد إلي عرضٍ جديد، وهيکليّة مبتکرة، ومنهج مستحدَث فاعل، لتقسيم السيرة العلويّة إلي ستّة

[صفحه 16]

عشر قسماً، تضعها بين يدي الباحثين والمتطلِّعين إلي المعارف العلويّة، وتُقدّمها إلي الولهين بحبّ عليّ عليه السلام، وإلي طلّاب الحقّ والحقيقة.

وفيما يلي نقدِّم استعراضاً عامّاً لمحتويات هذه الأقسام:



صفحه 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16.





  1. أطلق قائد الثورة الإسلاميّة آية اللَّه السيّد الخامنئي- حفظه اللَّه تعالي- علي العام الإيراني الحالي (1379 ه. ش) «عام الإمام عليّ عليه السلام» و «عام الولاية»؛ وذلک لحلول عيد الغدير فيه مرّتين؛ فبداية العام الحالي في 13 ذي الحجّة 1421 ه. ق، ونهايته في 24 ذي الحجّة 1422 ه. ق، فيکون يوم الغدير (18 ذي الحجّة) قد حلّ في الشهرين الأوّل والأخير من هذا العام.