ايّام التّخاذل











ايّام التّخاذل



اتّسمت السنوات الاُولي لحکم الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هکذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. علي صعيد آخر دأب أرباب الفتنة- خاصّة مرکزها الأساس في الشام- علي إيجاد الأزمات علي الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرع العقبات أمام الحکومة المرکزيّة.

ويجي ء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلک العهد. فهذه کلمات الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام تفيض من ألم الوحدة وحرقتها، وتبثّ شکواها من

[صفحه 24]

مصائب الزمان ودواهيه.

في تلک البرهة الحالکة من الزمان سقطت مصر؛ فغاب عن الإمام مالک الأشتر؛ أطهر الرجال، وأکفأ القادة، وأشجع الخلّان، وأوفاهم بعد أن ارتوي بشُهد الشهادة. فانکمش قلب الإمام، واُصيبت روحه الطهور، والألم يعتصره من کلّ جانب.

هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظلامة عليّ، کما هو انعکاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.

وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخر ليس له شبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام. فالناس لم تعد علي استعدادها الأوّل لحضور الجبهات، کما لم تعُد تستجيب لنداءات الإمام وهتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما کان يبثّه الإمام مراراً من شکوي، يري فيه خصائص لأهل ذلک العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترنو إلي الدنيا، وتصبو إليها.

في أوضاع کالحة کهذه استعرت بالإمام أميرالمؤمنين عليه السلام عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسه الطهور؛ فملأت نفسه ألماً وغضاضة وهو ينظر إلي جند معاوية تغير علي المدن المَرّة تلو الاُخري؛ تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.

[صفحه 25]

راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جنده واستهتارهم وضحکاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعت نفسه وفاضت لها غصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولکن لا من مجيب!

وهکذا مضي الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يتمنّي الموت مرّات ومرّات!

بيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلي الواقع المرير، بل مضي قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلّ عن المقاومة حتي آخر لحظة من عمره.

أجل، هذا أميرالمؤمنين يثبُ کالمنار المضي ء آخر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلي صفّين مجدّداً، وقد استنفر بکلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلي هذه المهمّة. فما أن انتهي من خطبته- وکانت الأخيرة- إلّا وعقد للحسين بن عليّ عليه السلام ولقيس بن سعد وأبي أيّوب الأنصاري لکلّ واحدٍ في عشرة آلاف مقاتل.

لکن وا أسفاً! فقد أودت واقعة استشهاد الإمام عليه السلام واغتياله من قِبل شقيّ «متنسّک» بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثت أن تداعت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.

لقد توفّر هذا القسم علي تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها

[صفحه 26]

ومساراتها وما کان قد اکتنفها من أسباب وعوامل.



صفحه 24، 25، 26.