حكاية سعد الوراق











حکاية سعد الوراق



حدث المترجم له أبوبکر أحمد بن محمد الصنوبري قال: کان بالرها[1] وراق يقال له: سعد. وکان في دکانه مجلس کل أديب، وکان حسن الادب والفهم،

[صفحه 375]

يعمل شعرا رقيقا، وما کنا نفارق دکانه أنا وأبوبکر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وکان لتاجر بالرها نصراني من کبار تجارها إبن إسمه عيسي من أحسن الناس وجها، وأحلاهم قدا، وأظرفهم طبعا ومنطقا، وکان يجلس إلينا ويکتب عنا أشعارنا وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الکتاب فعشقه سعد الوراق عشقا مبرحا ويعمل فيه الاشعار، فمن ذلک وقد جلس عنده في دکانه قوله:


إجعل فؤادي دواة والمداد دمي
وهاک فابر عظامي موضع القلم


وصير اللوح وجهي وامحه بيد
فإن ذلک برء لي من السقم


تري المعلم لايدري بمن کلفي
وأنت أشهر في الصبيان من علم


ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما کبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة وخاطب أباه وامه في ذلک، وألح عليهما حتي أجاباه وخرجابه إلي (دير زکي) بنواحي الرقة[2] وهو في نهاية حسنه فابتاعا له قلاية ودفعا إلي رأس الدير جملة من المال عنها فأقام الغلام فيها وضاقت علي سعد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق دکانه، و هجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلک يعمل فيه الاشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شماسا[3] .


ياحمة قد علت غصنا من البان
کأن أطرافها أطراف ريحان


قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا
بانما الشمس والشماس سيان


فقل لعيسي: بعيسي کم هراق دما
إنسان عينک من عين لانسان؟!


ثم إن الرهبان أنکروا علي الغلام کثرة إلمام سعد به ونهوه عنه وحرموه أن أدخله وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلي ماسألوه من ذلک، فلما رأي سعد امتناعه منه شق عليه، وخضع للرهبان ورفق بهم ولم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان، فکان إذا وافي الدير أغلقوا الباب في، وجهه، ولم يدعوا الغلام يکلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتي صار إلي الجنون

[صفحه 376]

فخرق ثيابه وانصرف إلي داره فضرب جميع مافيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الاشعار ويبکي.

قال أبوبکر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظل الدير وهو عريان وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعتبناه، فقال: دعاني من هذا الوسواس أتريان ذلک الطائر علي هيکل؟ وأومأ بيده إلي طائر هناک فقلنا: نعم. فقال: أنا وحقکما ياأخوي اناشده منذ الغداة أن يسقط فاحمله رسالة إلي عيسي. ثم التفت إلي وقال: ياصنوبري معک ألواحک؟ قلت: نعم. قال: اکتب:


بدينک ياحمامة دير زکي
وبالانجيل عندک والصليب


قفي وتحملي عني سلاما
إلي قمر علي غصن رطيب


حماه جماعة الرهبان عني
فقلبي مايقر من الوجيب


عليه مسوحه[4] وأضاء فيها
وکان البدر في حلل المغيب


وقالوا: رابنا إلمام سعد
ولا والله ماأنا بالمريب


وقولي: سعدک المسکين يشکو
لهيب جوي أحر من اللهيب


فصله بنظرة لک من بعيد
إذا ماکنت تمنع من قريب


وإن أنامت فاکتب حول قبري
محب مات من هجر الحبيب


رقيب واحد تنغيص عيش
فکيف بمن له ألفا رقيب


ثم ترکنا وقام يعدو إلي باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه ومازال کذلک زمانا، ثم وجد في بعض الايام ميتا إلي جانب الدير، وکان أمير البلد يومئذ العباس بن کيغلغ فلما اتصل ذلک به وبأهل الرها خرجوا إلي الدير، وقالوا ماقتله غير الرهبان. وقال لهم إبن کيغلغ: لابد من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، ولابد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتعصب في ذلک فافتدي النصاري نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم.[5] .

[صفحه 377]


صفحه 375، 376، 377.








  1. الرهاء بضم أوله والمد والقصر: مدينة بين الموصل والشام، استحدثها الرهاء بن البلندي فسميت باسمه.
  2. الرقة کل ارض منبسط جانب الوادي يعلوها الماء وقت المد. ولا يظن ان الرقة البلد الذي علي شاطي الفرات فان الرها بين الموصل والشام.
  3. الکلمة سريانية معناها: الخادم.
  4. المسوح: مايلبس من نسيج الشعر تقشعا وقهرا للبدن جمع مسح بکسر الميم.
  5. توجد ملخصة في تزيين الاسواق ص 170.