حکاية سعد الوراق
[صفحه 375] يعمل شعرا رقيقا، وما کنا نفارق دکانه أنا وأبوبکر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وکان لتاجر بالرها نصراني من کبار تجارها إبن إسمه عيسي من أحسن الناس وجها، وأحلاهم قدا، وأظرفهم طبعا ومنطقا، وکان يجلس إلينا ويکتب عنا أشعارنا وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الکتاب فعشقه سعد الوراق عشقا مبرحا ويعمل فيه الاشعار، فمن ذلک وقد جلس عنده في دکانه قوله: إجعل فؤادي دواة والمداد دمي وصير اللوح وجهي وامحه بيد تري المعلم لايدري بمن کلفي ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما کبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة وخاطب أباه وامه في ذلک، وألح عليهما حتي أجاباه وخرجابه إلي (دير زکي) بنواحي الرقة[2] وهو في نهاية حسنه فابتاعا له قلاية ودفعا إلي رأس الدير جملة من المال عنها فأقام الغلام فيها وضاقت علي سعد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق دکانه، و هجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلک يعمل فيه الاشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شماسا[3] . ياحمة قد علت غصنا من البان قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا فقل لعيسي: بعيسي کم هراق دما ثم إن الرهبان أنکروا علي الغلام کثرة إلمام سعد به ونهوه عنه وحرموه أن أدخله وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلي ماسألوه من ذلک، فلما رأي سعد امتناعه منه شق عليه، وخضع للرهبان ورفق بهم ولم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان، فکان إذا وافي الدير أغلقوا الباب في، وجهه، ولم يدعوا الغلام يکلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتي صار إلي الجنون [صفحه 376] فخرق ثيابه وانصرف إلي داره فضرب جميع مافيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الاشعار ويبکي. قال أبوبکر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظل الدير وهو عريان وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعتبناه، فقال: دعاني من هذا الوسواس أتريان ذلک الطائر علي هيکل؟ وأومأ بيده إلي طائر هناک فقلنا: نعم. فقال: أنا وحقکما ياأخوي اناشده منذ الغداة أن يسقط فاحمله رسالة إلي عيسي. ثم التفت إلي وقال: ياصنوبري معک ألواحک؟ قلت: نعم. قال: اکتب: بدينک ياحمامة دير زکي قفي وتحملي عني سلاما حماه جماعة الرهبان عني عليه مسوحه[4] وأضاء فيها وقالوا: رابنا إلمام سعد وقولي: سعدک المسکين يشکو فصله بنظرة لک من بعيد وإن أنامت فاکتب حول قبري رقيب واحد تنغيص عيش ثم ترکنا وقام يعدو إلي باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه ومازال کذلک زمانا، ثم وجد في بعض الايام ميتا إلي جانب الدير، وکان أمير البلد يومئذ العباس بن کيغلغ فلما اتصل ذلک به وبأهل الرها خرجوا إلي الدير، وقالوا ماقتله غير الرهبان. وقال لهم إبن کيغلغ: لابد من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، ولابد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتعصب في ذلک فافتدي النصاري نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم.[5] . [صفحه 377]
حدث المترجم له أبوبکر أحمد بن محمد الصنوبري قال: کان بالرها[1] وراق يقال له: سعد. وکان في دکانه مجلس کل أديب، وکان حسن الادب والفهم،
وهاک فابر عظامي موضع القلم
فإن ذلک برء لي من السقم
وأنت أشهر في الصبيان من علم
کأن أطرافها أطراف ريحان
بانما الشمس والشماس سيان
إنسان عينک من عين لانسان؟!
وبالانجيل عندک والصليب
إلي قمر علي غصن رطيب
فقلبي مايقر من الوجيب
وکان البدر في حلل المغيب
ولا والله ماأنا بالمريب
لهيب جوي أحر من اللهيب
إذا ماکنت تمنع من قريب
محب مات من هجر الحبيب
فکيف بمن له ألفا رقيب
صفحه 375، 376، 377.