الكفاءه الاخلاقيه











الکفاءه الاخلاقيه



اکد الاسلام علي الجانب الاخلاقي في سلوک الفرد والمجتمع، وقد الف فيه المتقدمون والمتاخرون، من اعلام الامه وجهابذتها، المولفات والمجلدات. وهذا الجانب في حقيقته يستمد جذوره واصالته من القرآن الکريم والسنه المطهره، فالمسلم الحق لا بد من ان يتوج سلوکه بمکارم الاخلاق، فلقد قام مجد الامه وحضارتها التليده علي دعائم من التربيه الاسلاميه ذات الخصوصيه من حيث المبادي والمقومات التي ثابر المربون من المسلمين والعرب الاوائل في زاهر عصرهم علي غرسها في النفوس، فاخذوا الناس بصدق القول والاخلاص في العمل والاستقامه في السلوک. فمن باب اولي -والحاله هذه- ان يکون القاضي باعتباره امينا علي احقاق الحق وخبيرا في کشف الحقيقه، محصنا بتلک الاخلاق لان امرها لا تستلزمه مقتضيات وظيفته الشرعيه فحسب، بل متطلبات تفکيره واحساسه المرهف بالعداله لانه اختصاصي في ادائها بين المتخاصمين عندما يعرضون نزاعهم عليه بهدف حسمه بالحق والعدل، تلک الاخلاق القائمه علي التدين والعداله والعفه بحيث لا تشرف نفسه الي طمع -علي حد تعبير الامام- فقد استکثر (ع) علي قاضيه شريح ان يبني دارا له بثمانين دينار وراتبه خمسمائه درهم.[1] وعلي القاضي ان يستحضر في مفردات عمله القضائي قوله (ع) في ان (الحرفه مع العفه خير من الغني مع الفجور)[2] لان عفه النفس خير عاصم من الهوي والزلل، ويقتضي ان لا تعجبه (اموالهم ولا اولادهم) کما يقول جلت قدرته: (فلا تعجبک اموالهم ولا اولادهم انما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياه الدنيا...).[3] .

اما في ما يتعلق بالعداله فان مدلولها الاسلامي يسبق معناها المعاصر ويتجاوزه من حيث العمق والشمول، وقد قال تعالي: (واذا حکمتم بين الناس ان تحکموا بالعدل)[4] والذي يحکم بالعدل يلزم ان لا تاخذه في الحق لومه لائم وان لا تاخذ منه العواطف او النعرات ماخذها، فايصال کل ذي حق الي حقه هو العدل بعينه، والقاضي عليه ان لا يغفل عن قوله تعالي: (فاحکم بيننا بالحق ولا تشطط) لان العدل ضد الجور ويقوم مفهومه علي استقامه السلوک التي تبعث علي التقوي، ويجب ان يحافظ علي المروءه التي تزکي الاطمئنان الي عداله حکمه[5] رغم ما قد يعانيه من صعوبات او تخرصات في حياته القضائيه، وهنا يحضرنا قول علي لعثمان: (ان الحق ثقيل مري ء والباطل خفيف وبي ء).[6] .

فالعداله اذن ميزان يزن الامو ربحياديه غير منحازه لغير الحق، مناطها الستر والعفاف. لهذا نجد بعض الفقهاء الاجلاء عند تعريفه لمصطلح العداله يقول انها (کيفيه نفسانيه باعثه علي ملازمه التقوي او عليها مع المروءه)[7] فهي اذن ملکه نفسيه رادعه عن المعاصي او داعيه الي اجتنابها.[8] وهي، في حقيقتها، تنصب علي معطيات اخلاقيه املتها القيم الاسلاميه قوامها الرحمه والاستقامه في جاده الشرع والمروءه، اي تجنب الانتقام. وقد جاء في وصيه الامام علي لابنه الحسن (ع) قوله: (يا بني اجعل نفسک ميزانا فيما بينک وبين غيرک فاحبب لغيرک ما تحب لنفسک.. ولا تظلم کما لا تحب ان تظلم).[9] اما مساله التدين فان المتدين الحق هو من آمن بالاسلام ظاهرا وباطنا لان الايمان مناطه القلب[10] ثقه واطمئنانا، لهذا اشترط الفقهاء -بحق- الايمان فيمن يراد توليته امر القضاء،[11] اذ لا يکفي مجرد الانتماء الي الاسلام من دون ان يمارسه عقيده وسلوکا، فقد يکون المرء منهم من الملمين بعلوم الاسلام للتخصص الاکاديمي او لمجرد الاعجاب والرفاه الفکري ولما يدخل الايمان في قلبه، کما في التعبير القرآني، شانه شان المعجبين بالنظريات الاجتماعيه الحديثه او المبهورين بنتائج التقنيه المعاصره، فتراه في ثقافته اسلاميا من دون ان يتوغل الايمان في اعماقه فيکون قد مارس الاسلام شکلا وافرغ فکره من الايمان باسسه تقريرا وسلوکا فيکون والحاله هذه اقرب الي الرجل المثقف الفاضل منه الي الرجل العالم المتدين.[12] فايمانه يقتضي ان يکون عن وعي عقائدي، واذا کان هذا الوعي المقرون بالعمل هو الذي نقصده من التدين فهو تدين نير، تدين بعيد عن التنسک الجاهلي او الاعجمي الاعمي وخارج عن العزله الصوفيه، لان شان هذا التصوف وذاک التنسک ابعاد صاحبه عن الفن القضائي، ومکنه التفطن المطلوبه في رجل القضاء. وقد روي عن الامام علي (ع) قوله: (قصم ظهري عالم متهتک وجاهل متنسک، هذا يفتي وينفر الناس بتهتکه، وهذا يضل الناس بتنسکه)،[13] فمن فيه تدين حق لا يمکن ان ياتي بجور او تزلف او مصانعه، لان التدين الحقيقي يستحضر الرقابه الدائمه علي الضمير، ويجنب صاحبه مواطن الهوي ومواقع الخلل بمختلف صوره.

ومن مظاهر التدين الابتعاد عن موارد الشبهه کي لا تلحقه ايه تهمه، فقد جاء في وصيه الامام علي لابنه الحسن (ع) ان ابدا (بالاستعانه) بالهک وترک کل شائبه اولجتک في شبهه).[14] .

کما ان تقبل الهديه -مثلا- يودي الي تعثر تطبيق العداله تطبيقا سليما، ولعل هذه الميزه -اي تجنب الشبهه- تاتي في مقدمه ما يتطلبه واجب المحافظه علي کرامه ولايه القضاء وشخص متوليه وسمعتهما، لاضفاء الهيبه المطلوبه عليهما والثقه المبتغاه فيهما. وهذا ما يذکرنا بحديث ابن اللتيبه، ففي کتاب الاماره من صحيح مسلم عن عروه بن الزبير، قال:

استعمل رسول اللّه ابن اللتيبه، وهو من الازد، علي صدقات بني سليم، فلما جاء حاسبه، قال هذا ما لکم وهذا هديه اهديت الي، فقال له الرسول الکريم: (فهلا جلست في بيت ابيک حتي تاتيک هديتک ان کنت صادقا).[15] .

کما ان ابن ابي الحديد تطرق الي ذکر کتاب الامام علي الي عثمان بن حنيف عامله علي البصره، فقد جاء فيه: (ياابن حنيف، بلغني ان رجلا من فتيه اهل البصره دعاک الي مادبه فاسرعت اليها... وما ظننت انک تجيب الي طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو فانظر الي ما تقضمه من هذا المقضم..).

امره هنا بان يترک ما فيه شبهه الي ما لا شبهه فيه، وسمي ذلک قضما لاحتقاره وازدرائه اياه، ذلک لان المقضم يطلق علي اکل الشي ء اليابس او ما يوکل ببعض الفم، لهذا کان موضع احتقار.[16] .

وقد اکد الامام علي، في معرض عهده الاغر لمالک الاشتر، وجوب ان لا تنفتح نفس القاضي الي طمع وطلب ب (ان يبذل له من العطاء ما تقل معه حاجته الي الناس)، وامره بان يعطيه من المنزله ما لا يطمع فيه غيره من خاصته. فالقاضي هو انسان قبل کل شي ء، والانسان مجبول علي القصور والغرور عاده، وجل من لا يشوبه نقص او حاجه جل من لا تاخذه سنه ولا نوم، فسبحانه لا يکلف نفسا الا وسعها، لهذا فان دعم رجال القضاء ماديا ومعنويا، وفقا لهذا النهج العلوي، يمنحهم الحصانه من الانزلاق في بور التردي رغم ما يقتضي ان يکونوا عليه من عفه وغني النفس الذي يمليه تدينهم اساسا.ومجمل القول فان مفهوم الکفاءه الاخلاقيه للقاضي يعني وجوب ابتعاده عن جميع معوقات العداله او الاستقامه، سواء في اقواله ام في افعاله ام في علاقاته الاجتماعيه، فالنزيه لا يصاحب ذوي النفوس المريضه ولا يعاشر او يجالس اصحاب الشبهه، او من في اخلاقه لوثه او ادانه، کما انه لا يحابي او يجامل علي حساب الحق.

والقاضي الکف ء يجب ان يراه الناس لا ان يسمعوه، يراه الناس بافعاله لا باقواله، وعليه ان يلتزم الوقار والرزانه في سلوکه وتصرفاته، وان يحمي نفسه من ملوثات اللسان او فلتاته، وکم کان ابن الجوزي موفقا عندما وضع قاضي عبادان في مصاف الحمقي والمغفلين لمخاطبته الحشرات التي سقطت عليه بعباره: (کثر اللّه بکم القبور)[17] لان مثل هذه العباره تثير سخريه الحاضرين، وتسبغ علي قائلها سمه الهزل والدعابه في غير موضعها، وتبعده عن مستلزمات الوقار والهيبه، فالمرء (مخبوء تحت لسانه) کما يقول امير المومنين،[18] ويقول ايضا رضوان اللّه عليه: (بکثره الصمت تکون الهيبه.. وبالتواضع تعم النعم.. وبالسيره العادله يقهر المناوي ء، وبالحلم عن السفيه تکثر الانصار عليه).[19] .

وفضلا عن ذلک لا بد، من جانب آخر، من الوقوف علي الخلفيه الاخلاقيه والمکانه الاجتماعيه لمن يراد تعيينه قاضيا والاطلاع علي ملفه الشخصي للوقوف علي مدي بياض صفحاته، مع تدقيق النظر في شخص من نظم تلک الصفحات ونظافته کي لا (تبکي منه الدماء وتصرخ منه المواريث ويستحل بقضائه الفرج الحرام)[20] لانه هنا، فضلا عن اصابته بالفساد الفکري، فانه سيدخل في قائمه الناس الذين کفوا عن التساول: ما الذي يجب عمله لارضاء خالقي وضميري ومجتمعي وراحوا يتساءلون: ما الذي يقتضي فعله کي اصبح غنيا قويا،[21] فيخرج بالتالي من زمره الخيرين من رعاه العداله المتقين، ويکون بعد انکشاف امره موضع ازدراء المجتمع والمسوولين.









  1. محمد عبده في شرح النهج، ج 3ص 3سبق ذکره.
  2. المصدرنفسه، ص 52.
  3. سوره التوبه، آيه: 12.
  4. سوره النساء، آيه: 58.
  5. الدکتور التجکاني في کتاب سالف الاشاره، ص 117.
  6. ضياء الدين ابن الاثير، المثل السائر في ادب الکاتب والشاعر، ج 2ص 280طبعه مصر، 1939.
  7. الشيخ مرتضي الانصاري، رساله العداله، ص 325المطبوعه حجريا مع رسائل اخري له بعنوان المتاجر، طبع عام 1305ه.
  8. للتوسع في مفهوم العداله، راجع، مثلا، غلام رضا، الراي السديد في الاجتهاد والتقليد، ص 97النجف، 1967.
  9. العاملي في وسائله، سلف ذکره.
  10. في مفهوم القلب، هنا، يمکن مراجعه الشهيد الثاني، التنبيهات العليه، ص 25وما بعدها، تحقيق علي جهاد الحساني، النجف 1998.
  11. في التفرقه بين الايمان والاسلام راجع: عبداللّه شبر، الحق اليقين في معرفه اصول الدين، الجزء الثاني، ص 310،336الطبعه الثانيه عام،1956وللغرض نفسه، ايضا، راجع: الغزالي، احياء علوم الدين، ج 1ص 105بيروت، دار القلم.
  12. هناک من فرق بين الفضل والعلم، فقد روي عن الرسول انه دخل يوما المسجد، واذا به يشاهد جمعا من الناس، وقد التفوا حول رجل فسال عن خبره فقيل له: انه غلام يعرف ايام عرب الجاهليه واشعارهم وانسابهم، فاجابهم: ان علم ثلاثه: آيه محکمه او سنه قائمه او فريضه عادله، وما خلاهن فهو فضل، ينظر المحمودي، نهج السعاده، ج 1ص 30سبق ذکره.
  13. ابن حجر، الصواعق المحرقه، ص 130مصر، ط،6وابن المستوفي، تاريخ اربل، ج 1ص 120بغداد، 1980.
  14. محمد عبده، شرح النهج، ج 3ص 42.
  15. تطرق الي هذه الروايه عدد آخر من الاعلام نذکر منهم ابن تيميه، السياسه الشرعيه، ص 45طبعه مصر،69وعبد القادر عوده في التشريع الجنائي الاسلامي، ج 2ص 209.
  16. ابن ابي الحديد، شرح النهج، المجلد الرابع، ص 822طبعه بيروت، 1983.
  17. ابن الجوزي، اخبار الحمقي والمغفلين، ص 94طبعه النجف 1966.
  18. محمد عبده، المصدر السابق، ج 4ص 174.
  19. المصدر نفسه، ص 189.
  20. ابن قتيبه، عيون الاخبار، المجلد الاول، ص 6سبق ذکره.
  21. فيصاب بفتنه القوه، والقوه تصرفه هنا عن سبل الخير وتدفعه الي الشر، راجع: الدکتور سبعاوي ابراهيم الحسن، حل النزاعات بين الدول العربيه، ص 25وهو رساله دکتوراه، طبعه اولي، بغداد 1987.