الخاتمه











الخاتمه



بعد هذه الجوله التي حاولت فيها تقديم صوره سريعه ومرکزه عن النهج القضائي لرجل العداله المخلد الامام علي بن ابي طالب (ع) وعمليته القضائيه الجليله، وقد رايت ضروره عدم الاقتصار فيها علي المنهج الاستدلالي في البحث والتحليل کونه يفيد في الرد علي مناهضي الحق والعداله ومقارعه الحجه بالحجه ومواجهه الدليل بالدليل لافحامه، بل يقتضي ايلاء المنهج الاستقرائي اولويه، لانه يجسد تلک العمليه ويجعل القاري ء الکريم يعيش جزئياتها من خلال شذرات سوابقه ودرر احکامه القضائيه اليتيمه بشکل حي وفاعل. وهذا ما حاولت سلوکه في هذا الجهد المتواضع، اذ سرت مع الامام الجليل عبر ما ظفرت به من کنوز في هذا الخصوص لابراز ما تمخض عنها من مبادي ء وقواعد ودلالات وکيفيه تعامله معها في جزئيات القضايا خلال المرافعه، بوصفه قاضيا فردا متميزا له خصوصيته المتفرده في القضاء. ولعل اهم محصله هذه الجوله هي النقاط التاليه:

اولا: تميز فکر الامام بخصوصيه تبدو جليه من خلال منهجه في اختيار القاضي وما افرزه هذا المنهج من ضوابط ازاء الاهليه المطلوبه في من يراد اناطه وزر القضاء به، ويرتکز هذا المنهج علي متطلبات الکفاءه العلميه وما يتفرع عنها من لزوم الالمام بالعلوم ذات العلاقه بالعمليه القضائيه، الامر الذي تمخضت عنه القاعده الفقهيه التي مفادها ان ما يعرف به الواجب واجب، اذ ان ما لا يتم الواجب الا به هو واجب ايضا -کما في تعبير الفقهاء المسلمين- او ما تعلق بالکفاءه الاخلاقيه وما يقتضي ان يکون عليه القاضي من خلالها خارج مجلس القضاء او داخله والکفاءه الصحيه بشقيها: العضوي والنفسي.

ثانيا: ليس من قاعده من القواعد القانونيه المعاصره ومبادي ء اصول المرافعات، او المحاکمات المتبعه في ساحات المحاکم، حاليا، الا ونجد لها في منهج الامام علي اصلا او اساسا. وعلي سبيل المثال نذکر:

ا - ان الامام عليا (ص) هو اول من اخذ بمبدا الاثبات المطلق، فقد لاحظنا انه لم يقيد نفسه -کقاعده عامه- بادله محدده او بينات محصوره ليبني عليها حکمه، فکل ما يتحصل لديه من ادله مقبوله شرعا -بطريق النقل او العقل- کان يعتمده ويستدل به في حکمه، مع التقييد بضوابط بعض الحالات التي حددت ادله الاثبات فيها بنص، کعدم ثبوت جريمه القذف باقل من اربعه شهود مثلا.

ب - البينه عند الامام علي کلما کان وقت الحصول عليها اقرب زمنا الي الحادث، او الواقعه، کانت ادعي للاطمئنان لديه واقرب للمصداقيه لبعدها عن التاثير او التحوير، وهذا ما استقر عليه الفکر القضائي المعاصر.

ج - انه (ع) اول من فرق بين الشهود، وقد صرح بهذه الحقيقه في اکثر من سابقه قضائيه له، فقد کان يستمع الي شهاده کل شاهد علي انفراد کي لا توثر شهادته علي مسامع الاخر، وحتي تکون بمناي عن التبديل او التضليل والالتباس والتداخل.

د - وکان کما تدلنا عليه شذرات سوابقه دقيقا في تعليل حکمه کي لا يختلط هذا التعليل بما يودي اليه الاستنباط من معني، ما دامت مبررات ما آل اليه الحکم قد تمت علي ضوء القناعه التي وصل اليها من خلال تحليله لوقائع الدعوي وما توفر فيها من بينات، موسسا قرار حکمه فيها علي النص التشريعي والحل الحاسم المناسب.

ثالثا: وتدلنا سوابقه القضائيه انه (ع) لم يسمح بتاخير تنفيذ الحکم في القضايا، کي تعود الحقوق الي اصحابها ويرفع الحيف عن المظلوم بالسرعه الممکنه، وتعاد الامور الي مواطنها بعد اکتشاف الحقيقه فيها وبالشکل المطلوب والعادل. وکان دقيقا في تنفيذ احکام الباري، لدرجه حدت به الي عدم السماح لمن تولي القضاء في خلافته من تنفيذ احکام الحدود الا بعد عرضها عليه، کما ثبت ذلک من خلال بعض سوابقه مع شريح بن الحارث. واذا کان منهجه، في الاحکام، يتخذ قاعده عامه هي تنفيذها بلا تاخير فان هناک استثناءات وردت عليها في المسائل الجزائيه لم يسبقه اليها سابق تجسدت فيها شخصيه العقوبه، کما تبين لنا من تاخيره تنفيذ الحد علي الحامل الي حين وضع حملها، فقد جسد هذا المبدا بشکل عملي لاول مره وهو المبدا الذي جنحت التشريعات العقابيه الوضعيه الي الاخذ به وتطبيقه في وقت متاخر.

کما انه قرر تاخير تنفيذ عقوبه المريض حتي يبرا من مرضه، وهذا يعني انه بهذا الاستثناء قد اولي الجانب الانساني للعقوبه رعايته، فمثل في هذا الجانب صوره حيه لدقه عدالته ونظرته الانسانيه في تعامله مع من انزلق في مهاوي الاجرام.وبهذا يکون قد حدد للعقوبه خصائصها المميزه، وهي شخصيه العقوبه ثم انسانيتها واخيرا قانونيتها، اي شرعيتها، عدا ما يخص العقوبات التعزيريه التي منح الشارع الاسلامي فيها للقاضي، او ولي الامر، سلطه تقديريه بالشکل الذي يمثل تفريد العقاب بادق صوره.

رابعا: والذي يستشف من منهجه القضائي الجليل ان هناک مميزات تتصف بها محاکماته العادله اهمها ما ياتي:

ا - علنيه المحاکمه، اذ يعد (ع) اول من طبق، او جسد، هذا المبدا بشکل حي، من خلال دکه القضاء التي نصبها في مسجد الکوفه ووضع بالقرب منها لائحه کتب عليها قوله تعالي: (ان اللّه يامر بالعدل والاحسان). وعندما سئل عن هذا النص المقدس قال: (العدل الانصاف، اما الاحسان فيعني التفضل).

ب - تدوين الاقوال، فقد کان يامر کاتبه بتدوين الاقوال التي يستمع اليها في مجلس قضائه، وهناک غير سابقه امر فيها کاتبه عبيداللّهبن ابي رافع بان يکتب ما يملي عليه الشاهد او الخصم، ولا يخفي ما للتدوين من مزايا ومبررات، فهو ضمان من اي تحريف او تشويه فضلا عما تنطوي عليه الذاکره بمرور الايام من عدم الدقه بفعل النسيان او التشويش وغيره.

ج - المساواه، في النظره والاشاره والتعامل، ابان المرافعه، بين الخصوم وبقيه اطراف الدعوي، اهتداء بسنه الرسول الکريم، وقد طبق هذا المبدا علي نفسه کما عرفنا من حادث التغيير الذي لاح في وجهه الطاهر عندما خاطبه عمربن الخطاب بکنيته بدلا عن اسمه، الامر الذي يدلل علي تطبيقه للعداله في اروع صورها وادقها.

وما هذه المميزات الثلاثه الا خصائص يفخر القضاء المعاصر في تطبيقها، بوصفها تجسيدا حيا للعداله في ساحاته، وهي نابعه اصلا من قضاء الامام علي بن ابي طالب کرم اللّه وجهه.[1] .

خامسا: في العمليه القضائيه، عند الامام علي (ع)، يبدو لاول وهله منها انها مجرد احکام قضائيه في جزئيات بسيطه من مفردات الحياه اليوميه للفرد، بينما الحقيقه -کما لاحظنا من خلال الفقرات المتقدمه- ان لکل حکم في الجزئيه فلسفه، وتتمخض عنها قاعده تستخلص من سابقه قضائيه تساعدنا علي تفهم طبيعه المشکلات التي يمر بها الجنس البشري وسبل حلها، الامر الذي يستحق -والحاله هذه- البحث والتحقيق المعمقين، ناهيک عن ان تطبيقات تلک العمليه تعبر، في نتائجها، عن اقصي ما يمکن للعداله ان تحققه للعباد عبر التاريخ من سعاده.

سادسا: واخيرا، فان من المغالطه -بعد هذه الجوله- ان نقول ان عليابن ابي طالب (ع) هو ابن مرحله او نتاج عصره، فافکاره وطروحاته لم تکن قد فرضتها ظروف او مناسبات معينه لتنتهي بانتهائها، او انها مرتبطه بزمن او حضاره او مکان معين، انما هي معين حي نابض بالحياه المتجدده مع الايام، ونابعه من صميم العقيده الاسلاميه المعطاء، فهو وارث علمها من ابن عمه الرسول الامين واساسها القويم هو القرآن الکريم الذي فيه تبيان کل شي ء. لهذا فان تلک الافکار والطروحات تبقي حيه علي مر العصور رغم تقلب الزمن بظروفه وحضاراته واشخاصه، فرغم اختفاء کثير من قضايا امير المومنين علي بن ابي طالب (ع) واحکامه وافرازاته في مجال اداره العداله وفقه القضاء وفنه، سواء في جانب القضاء العادي ام في قضاء الحسبه او المظالم، الا ان ما تبقي منها يدل علي براعته المنهجيه واصالته الفنيه المبدعه وما انطوت عليه من ابتکارات ملهمه وما جاء به فکره النير من مضامين ذات دلالات فريده في الحضاره الانسانيه -ککل- علي مر الحقب.

وتاسيسا علي ما تقدم، فان المحصله التي نصل اليها، من خلال هذه الاوراق المتواضعه، هي ان الامام عليا (ع) قد اعطي الصوره الحقيقيه لبهاء القضاء في الاسلام واظهر عظمته وجلاله واعتداله -فکرا وعملا- وان ما قدمه من اسس وقواعد صلبه يمثل افضل علاج لمشاکل البشر وفض نزاعاتهم من خلال ساحات المحاکم علي مر العصور. ولعل خير دليل علي ذلک هو اضطرار المشترعين ورجال الفکر القانوني والقضائي في دول العالم، وخصوصا الغربيه منها، الي الاخذ بتلک الاسس والقواعد، وهذا يمثل تجسيدا حيا لاحد تطبيقات مداليل الايه الکريمه (هو الذي ارسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين کله ولو کره المشرکون).[2] .

فلقد استمد الغرب من تقاليد امتنا المجيده وتراثها مدنيته واستقي من مبادي ء الاسلام ومولفات اعلامه وفکر قادته علومه بعدما تبين لهم ان ما ارسته الحضاره العربيه الاسلاميه من قواعد وما خلفته من اسس هو خير علاج لمشکلات البشر عبر العصور. لهذا اضطر اولئک المشترعون ورجال الفکر الي الاخذ بها وتطبيقها، بوصفها نظاما قانونيا عادلا باحکامه شاملا بمبادئه عميقا بدلالاته... وهذا هو سر بقائه وصموده ظاهرا قويا منتصرا -کما تشير اليه الايه المذکوره- رغم تعاقب الحضارات، وهذا ما تفخر به امه العرب والمسلمين التي انجبت رجل العداله المخلد الامام علي (ع) الذي فهم مداليل الحق والعداله من اقرب مواردها فبلغ فيها الغايه القصوي.

واللّه الموفق للصواب، وله الحمد والشکر.









  1. (کرم اللّه وجهه) تعبير اختص به الامام عليه لانه لم يسجد لصنم قط، راجع، مثلا، ابن المستوفي، تاريخ اربل، ج 1ص 101سبق ذکره.
  2. سوره الصف، آيه:،9وتفيد المعني نفسه، الايه 28من سوره الفتح.