تنفيذ القضايا الجزائيه











تنفيذ القضايا الجزائيه



من خلال مراجعه سريعه للسوابق القضائيه للامام علي (ع)، نجد ان منهجه في تنفيذ الاحکام الجزائيه يتم بشکل فوري، باستثناء الجرائم الحديه التي يتولي الحکم فيها غيره. فقد علمنا انه طلب من قاضيه شريح بن الحارث عدم تنفيذ ايه عقوبه حديه الا بعد عرضها عليه، وذلک لجسامه العقوبه وخطوره الجريمه الحديه التي يجب عدم تعديها او الاعتداء عليها او تعطيلها بعد ثبوتها.[1] هذا فضلا عما اکتشفه من حصول اخطاء جسيمه في بعض مفردات قضاء شريح التي نقضها الامام وصحح بعضها.

ومن المبادي ء المهمه المستنبطه، من قضاء الامام، انه لم يعاقب عن الجريمه الواحده باکثر من العقوبه المقرره لها شرعا، سواء اکانت هذه الجريمه حديه ام من جرائم القصاص والديه الا اذا اکتنفتها ظروف مشدده کحاله السکر ايام شهر رمضان المبارک مثلا.[2] .

اما في ما يخص الجرائم غير مقدره العقوبه، وهي الجرائم التعزيريه فان امر العقوبه فيها متروک لولي الامر وللقاضي الذي له سلطه تقرير العقوبه التي يراها مناسبه لکل جريمه تعزيريه علي حده، وذلک وفقا لظروفها وظروف مرتکبها وما اکتنفها او اکتنف فاعلها من ملابسات. لهذا تصح المعاقبه عليها باکثر من عقوبه واحده، فقد قرر الامام مثلا في شاهد الزور الغريب ارجاعه الي منطقه سکناه، في حين قرر في شاهد زور سوقي ان يطاف به في السوق ثم امر بحبسه اياما، ثم اخلي بعدها سبيله.[3] .

اما في جرائم الاشتراک، ففي قضيه قتل، قرر الامام حکمه باعدام القاتل الاصلي، قصاصا، في حين ان مساعده الذي کان دوره يتمثل بالامساک بالمجني عليه تسهيلا للجاني في قتله، فقد امر بحبسه مدي الحياه،[4] وفي هذا الحکم دقه متناهيه في تطبيقه لاحکام الباري، فقد اقتص من القاتل بما يماثل فعله، اما شريکه الذي ساعده في الجريمه فلم يقتله قتلا فوريا انما قتله قتلا بطيئا حيث قرر حبسه حتي الموت.[5] وهذه عقوبه تعزيريه مناسبه حقا لفعله الجنائي.

والاصل، في قضاء الامام، فوريه تنفيذ العقوبات، وخصوصا في الحدود من دون اي تاخير او امهال، والا فلا يحکم عند عدم کفايه الدليل، اذ قضي في ثلاثه شهدوا علي رجل بالزنا -کما المحنا- فسال عن الشاهد الرابع اکمالا لنصاب الشهاده، وعندما عرف منهم تاخيره اصدر قراره الفوري العادل: (حدوهم فليس في الحدود نظره ساعه)، کما جاء في الوسائل، حيث اقام عليهم حد القذف، کما قضي بعدم جواز الکفاله في الجرائم الحديه، حيث جاء في احد قراراته: (لا کفاله في حد).[6] .

الا ان قاعده فوريه تنفيذ العقوبه في المسائل الجزائيه ترد عليها استثناءات کما تدلنا علي ذلک سوابق الامام علي (ع)، ومنها:

ا- جاء، في فروع الکافي وغيره[7] من المصادر ان الامام (ع) لم يسمح باقامه الحد علي المريض حتي يبرا من مرضه، في العديد من القضايا، نذکر منها حادث المدان الذي جلب اليه وجسمه مصاب بالقروح، فقرر بصدده: (اترکوه حتي يبرا ثم اقيموا عليه الحد)، ولم يسبقه الي هذا سابق فيکون بهذا قد جسد الجانب الانساني للعقوبه في ابهي صوره.

ب- وقضي، رضوان اللّه عليه، بعدم اقامه الحد علي الحامل حتي تضع حملها، فقد جاء في ارشاد الشيخ المفيد ان الخليفه عمر استشار عليا في حکم اصدره باحدي الحوامل، وهو يقضي بالرجم لثبوت الادله ضدها، فکان جواب الامام هو وجوب تاخير تنفيذ الحد بحقها حتي تلد، معللا قراره هذا ببلاغته المعهوده: (هب ان لک سبيلا عليها فاي سبيل علي ما في بطنها، واللّه تعالي يقول: ولا تزر وازره وزر اخري. فقال عمر: لا عشت لمعضله لا يکون لها ابو الحسن).[8] وهناک سوابق عديده مماثله له تشير الي تاخير تنفيذ الحد علي الحامل حتي تضع حملها شريطه عدم الاضرار بالوليد، فان خيف عليه وجب ايضا تاخير تنفيذ الحد بحق امه الي حين فطامه حفاظا علي حياته.[9] اي انه (ع)، فضلا عن نظرته الانسانيه العميقه ازاء الوليد، طبق مدلول الايه الکريمه (ولا تزر وازره وزر اخري) بشکل حي في العمليه القضائيه التي لم تجنح التشريعات الوضعيه الا اخيرا الي الاخذ به، وهو ما يطلق عليه، في التعبير المعاصر، مبدا (شخصيه العقوبه)، فکل يواخذ بجريرته لا بجريره غيره.[10] .

ج- وقضي، ايضا، بوجوب عدم اقامه الحد علي الجاني في ارض العدو[11] مسببا حکمه هذا بالقول: (لا اقيم علي رجل حدا بارض العدو حتي يخرج منها مخافه ان تحمله الحميه فيلحق بالعدو)، کما جاء في باب الحدود من کتاب الوسائل. واخيرا، لا يخفي ما في فوريه تنفيذ الاحکام، بوصفها قاعده عامه، من حکمه، وتتضح هذه الحکمه بشکل اکثر في حقوق اللّه تعالي وحدوده لعدم الشفاعه فيها او المهادنه. اما في حقوق العباد[12] فيتوقف تنفيذها علي طلب المدعي او صاحب الحق، فان عدوله يعني عدم التنفيذ[13] لان التراضي يمنع العقوبه عاده، مع ملاحظه ان تنفيذ العقوبات لا يصح في الجامع او المسجد.[14] .









  1. من لا يحضره الفقيه، ج 3ص 35والوسائل، باب الشهادات.
  2. حيث يجلد مئه جلده، بعدما اضاف علي الحد عشرين جلده تعزيرا لانتهاکه حرمه شهر رمضان المبارک.
  3. من لا يحضره الفقيه، ج 3ص 30.
  4. المصدر نفسه.
  5. لمزيد من التفصيل، راجع: کتاب الام للشافعي وعبد القادر عوده، التشريع الجنائي الاسلامي، ج 2ص 128.
  6. من لا يحضره الفقيه، ج 3ص 54.
  7. مثل وسائل العاملي وجواهر النجفي، ويروي عن الامام علي قوله: ليس علي المستحاضه حد حتي تطهر ولا علي الحائض حتي تطهر ولا علي النفساء حت تطهر، التستري، ص 47سبق ذکره.
  8. ارشاد المفيد، ص 120.
  9. مباني تکمله المنهاج، ج 1ص 214الهامش.
  10. للتوسع، في مفهوم شخصيه العقوبه، راجع مثلا: الدکتور حميد السعدي في کتابه، شرح قانون العقوبات الجديد، ج 1ص 415وما بعدها، بغداد 1976.
  11. عبد القادر عوده، سبق ذکره، ج 2ص 136.
  12. للوقوف علي معيار التفرقه بين حقوق اللّه وحقوق العباد يمکن مراجعه المحقق الحلي في شرائعه، ج 4ص 136والشهيد الاول في قواعده وفوائده القسم الاول، ص 324.
  13. مباني تکمله المنهاج، ج 1ص 227.
  14. راجع، مثلا، جواهر الکلام، باب آداب القضاء، ومن المتاخرين، مثلا، احمد فتحي بهنسي، الحد والتعزير، ص 63سبق ذکره.