الشهاده











الشهاده



تعرف الشهاده بانها اخبار الشخص عن واقعه او حق يعلمه بنفسه او بالمشاهده،[1] فضابط الشهاده اذن هو العلم[2] اي المشاهده لقوله تعالي: (ولا تقف ما ليس لک به علم) وقوله: (الا من شهد بالحق وهم يعلمون). وذکر العاملي في وسائله ان الرسول الامين سئل عن الشهاده فقال: (هل تري الشمس علي مثلها فاشهد اودع)[3] وقال ايضا: لا تشهد بشهاده لا تذکرها. وعلي هذا فالشهاده يقتضي ان تکون علي اليقين لا السماع او التخمين، واليقين يحصل بالمشاهده العينيه التي تعط ي علما معينا عن الشي ء المشاهد وهي تنصب اما علي وقائع ماديه محضه کالولاده او الوفاه او القتل، او علي تصرفات تقع علي المال، مثل العقد او سند الدين وما اليه. وتستمد الشهاده حجيتها من القرآن الکريم، حيث يقول جلت قدرته: (واقيموا الشهاده للّه) کدليل فاعل في الاثبات سواء في المسائل المدنيه او الجزائيه.

وقد تناول الفقهاء المسلمون موضوع الشهاده باسهاب الي درجه حدت ببعضهم الي ان خصوا البينه بالشهود فقط، من دون ان يذکروا تعليلا لذلک،[4] في حين ان البينه -کما يدل عليها اسمها- هي اسم لکل ما يبين الحق ويظهره بما فيها الشهاده.

واداء الشهاده واجب علي العين وليس علي الکفايه لقوله تعالي: (ولا ياب الشهداء اذا ما دعوا)،[5] الذي فسره الامام علي (ع) بان من کان في عنقه الشهاده فلا يمتنع اذا دعي لاقامتها، ولينصح في ادائها ولا تاخذه فيها لومه لائم وليامر بالمعروف ولينه عن المنکر.[6] .

اما في حاله الامتناع عن اداء الشهاده فان ذلک يشکل مخالفه شرعيه بدليل قوله تعالي: (ولا تکتموا الشهاده ومن يکتمها فانه آثم قلبه)،[7] هذا باستثناء من يصيبه ضرر منها لقول الباري: (ولا يضار کاتب ولا شهيد) وهناک من ذهب الي انه صحيح ان الشارع منع کتمان الشهاده، ولکن ذلک فيما عدا جرائم الحدود، مدعما رايه هذا علي ما يروي عن الرسول قوله: (من راي علي اخيه شيئا من هذه القاذورات وستر، ستره اللّه يوم يفتضح المجرمون)، فالشرع المقدس يبيح السکوت وعدم اداء الشهاده،[8] في مثل هذه المواطن. والذي اراه ان مفهوم هذا الحديث ينصب علي محرک الشکوي او المخبر،[9] اذ لا يمکن حمله علي الشاهد الذي دعي للادلاء بشهادته العيانيه لصراحه النص القرآني في منع کتمان الشهاده والا فانه آثم قلبه. ومما يعزز راينا هذا السابقه القضائيه للرسول الکريم التي ورد ذکرها في المبحث السابق، اذ قال (ص) لمن حمل رجلا علي الاقرار عنده بالزنا: (هلا سترته بثوبک وسماعها بالبينه)، فالستر اولي بالنسبه للمخبر لا لمن طلب منه الادلاء باقواله، بوصفه شاهدا، من قبل صاحب الولايه الشرعيه.

ويقتضي عدم خوض اللجج مع الشاهد في ما هو خارج عن موضوع شهادته، ولعل من الطريف الاشاره هنا الي ما يروي من (ان رجلا جاء الي القاضي ابن شبرمه ومعه قوم يشهدون علي قراح[10] له فيه نخل، فشهدوا وکانوا عدولا، فسالهم: کم في القراح من نخله. قالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم، فقال له رجل منهم: انت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنه فاعلمنا کم فيه من اسطوانه؟ فاجازهم).[11] .

واذا کانت الشهاده هي احدي الطرق المعتمده في الاثبات فانها، في الوقت نفسه، طريقه ضعيفه احيانا ازاء کبار السن او ضعاف السمع او البصر مثلا، لا بل وخطيره احيانا اخري، وخصوصا في المسائل الجزائيه لتعلقها بحقوق الناس وارواحهم کونها عرضه للتضليل وشراء الذمم الرخيصه، لهذا يلزم التحري الدقيق عن الشهود للوقوف علي مدي مصداقيتهم، فلقد قضي علي بن ابي طالب (ع) في رد شهادات اربعه شهدوا علي رجل بالزنا بعدما تبين له انهم متهمون بقضايا جنائيه اخري، واقام عليهم حد القذف ايضا.[12] .

فمنهج الامام علي (ع) ازاء الشهاده يتمثل في انه لم ياخذ بها علي علاتها من دون تمحيص او تدقيق. وقد جاء في وصيته لشريح: (اعلم ان المسلمين عدول بعضهم علي بعض الا مجلود في حد لم يتب او معروف بشهاده زور او ضنين)، ويروي عنه قوله: (لا تقبل شهاده فجاش ولا ذي مخزيه)[13] فمثل هولاء الشهود لا تقبل شهادتهم، وقد قال تعالي: (ممن ترضون من الشهداء)[14] فمن کان في

سمعته لوثه او ادانه او ريبه لا يصح الرضا بشهادته، وکذا شهاده العراف او مرتکب الجنايات الا اذا عرفت توبته،[15] وهذا يعني ان للخصم حق الطلب من القاضي في التحري عن شهود خصمه وکشف ما لديه عنهم من مثالب کي لا تقبل شهاداتهم.

والثابت ان علي بن ابي طالب (ع) هو اول من فرق بين الشهود عند الاستماع الي شهاداتهم، اذ ان سوابقه القضائيه تدلنا علي انه کان يستمع الي شهادات الشهود کل علي انفراد، من دون ان يسبقه اليها سابق سوي نبي اللّه داود (ع)،[16] فمن سوابقه بهذا الخصوص نذکر قضيه الشاب الذي خرج ابوه مع نفر من اصحابه في سفر للتجاره وتخلفه عنهم عند عودتهم وادعائهم موته، حيث رفع شکواه امام شريح الذي استحلفهم واطلق سراحهم لعدم وجود الدليل ضدهم، فقد تظلم منه الشاب المذکور امام علي (ع) الذي علم ان والد المشتکي المتظلم کان ذا مال کثير، لذا قال: (ينبغي لشريح ان يستقصي في الاستکشاف عن خبر هذا الرجل ولا يقتصر علي طلب البينه)،[17] فهناک اکثر من قرينه لمسها امير المومنين في مصداقيه الشاب، لهذا اتبع اجراء آخر لکشف الحقيقه، الا وهو تفريقهم والاستماع الي اقوال کل تاجر منهم بصفه شاهد، وتوصل، بعد عمليه استنطاق محکمه، الي کشف خبر ذلک الرجل، فقد قام بوضع کل واحد منهم الي جانب اسطوانه من اساطين مسجد الکوفه، ثم طلب من کاتبه عبيداللّهبن ابي رافع الحضور والجلوس بالقرب منه، بعد ان طلب من قنبر استدعاء ثله من شرطه الخميس[18] ووضع کل واحد منهم مع احد المتهمين للحيلوله دون تغيير مکانه، ثم امر باحضارهم واحدا بعد الاخر بمجلس قضائه مستجوبا اياهم عن ذهابهم ونزولهم وعامهم وشهرهم ويومهم، وعن مرض الرجل المدعي به وکيفيه موته وغسله وتکفينه ودفنه ومکان قبره، طالبا الاجابه بصوت منخفض، وبالتناوب، وکاتبه المذکور يدون ما يملي عليه الشاهد، وکان کلما ينتهي من کلامه يکبر الامام تکبيرتين يسمعهما کل من کان في المسجد، فظن الاخرون انه اخبر الامام بحقيقه الحادث فتناقضت اقوالهم وکان آخر متهم فيهم الذي استمع الي اقواله، بوصفه شاهدا، وهو رابعهم، قد اعترف اعترافا مفصلا بکيفيه قيامه بالاشتراک مع بقيه المتهمين في قتل الرجل طمعا بماله، فکبر الامام واحضر بقيه المتهمين وعبر المواجهه القضائيه الاستجوابيه اعترفوا جميعا وبمحض ارادتهم بتفاصيل الحادث ومکان اخفاء مال الرجل ومکان قبره، وهکذا بانت الحقيقه واعترف الجناه بما اسنده اليهم الشاب من فعل جنائي. وفي سابقه اخري للامام (ع) تخص جاريه، وملخص قضيتها ان امراه غاب عنها زوجها تارکا معها في دار الزوجيه تلک الجاريه، وکانت ذات جمال اخاذ وساحر، وبدافع الحسد وخوفا من ان يتزوجها زوجها قامت بتدبير مکيده ضدها، فسقتها المسکر، وافتضت بکارتها باصابعها بعد ان ساعدتها في هذه الواقعه بعض النسوه من جاراتها، وقد استعصي علي الخليفه عمر (رض) حل لغزها، لذا عرضها علي الامام علي (ع) الذي قام بالاستماع الي شهاده کل من النسوه علي انفراد، وتوصل بعد عمليه استنطاق دقيقه الي تلک الحقيقه، لذا قرر الحکم علي الزوجه الحسود بحد القذف وعلي اللات ادلين امام الخليفه عمر بشهاداتهن الزور والزمهن العقر،[19] وجعل عقرها اربعمئه درهم عليهن تعزيرا، وقضي بنفي تلک المدانه عن زوجها، وزوجه، اي زوج زوجها بالجاريه الشابه البريئه، وقال: اللّه اکبر، انا اول من فرق بين الشهود.[20] .

وتفريق الشهود، عند الاستماع الي شهاداتهم في المرافعه، يکشف للقضاء الحقيقه بشکل اقرب للدقه، وادعي للقناعه والاطمئنان، فاتفاق اقوال الشهود المنفردين يدل يدل علي المصداقيه عاده، ثم ان التفريق يودي الي تلافي تاثر اقوال احدهما بالاخر، بالتطابق او التغاير، لما في مثل هذا التاثر من معوقات في الوصول الي الحقيقه الواقعه.

اما بصدد نصاب الشهاده فاذا کان في بعض الحالات قد نص عليه القرآن الکريم فالامر فيه محسوم، فنصابها في المعاملات مثلا شهاده رجلين (فان لم يکونا رجلين فرجل وامراتان ممن ترضون)،[21] ونصاب شهاده اثبات الزنا او القذف اربعه،[22] ويقتضي احضارهم جميعا والاستماع الي شهاده کل منهم علي انفراد في مجلس القضاء والا اهدرت شهاده من حضر منهم دون النصاب، لا بل انه (ع) لم يکن يعفي من حضر منهم دون النصاب من المساءله الجزائيه، کما تدلنا علي ذلک سوابقه الجليله، ففي احدي قضاياه نذکر قضيه الشهود الثلاثه الذين شهدوا امامه علي رجل بالزنا، وعندما سالهم عن الشاهد الرابع وعلم عدم حضوره وتاخره امر باقامه حد القذف عليهم، واضاف قائلا: (ليس في الحد نظره ساعه)[23] والذي نستظهره من حکمه العادل هذا انه اراد بحدهم زجرهم وردعهم وردع غيرهم في وجوب الستر وعدم التسرع في التشهير ما دامت البينه غير مکتمله النصاب،[24] خصوصا في مثل هذه الجرائم الاخلاقيه المشينه، هذا فضلا عما يحتمله امهال الشاهد في مثل هکذا جرائم، او تاجيل المحاکمه لحين اکتمال النصاب، من تاثير قد يودي الي تغيرها او تحويرها بفعل مرور الزمن لما قد يتخلله من عوامل الترهيب او الترغيب.[25] .

ويحصل، في العمليه القضائيه، ان يرجع الشاهد عن شهادته في المرافعه، فما هي معالجات الامام علي ازاء مثل هذا الرجوع؟ ان سوابقه (ع) تدلنا علي وجوب التفرقه بين حالتين رئيسيتين:

الاولي: اذا کان الرجوع قد حصل قبل صدور الحکم او تنفيذه، ففي هذه الحاله تهدر الشهاده الاولي. اما الثانيه: فيکون الرجوع فيها بعد تنفيذ الحکم، وفيها کان لا يعفي الشاهد المتراجع عن شهادته من المساءله الجزائيه، وقد فرق هنا بين امرين فيها، الاول اذا کان الرجوع مبنيا علي الشبهه او الشک ضمن الديه. اما الثاني فينصب علي کون الرجوع قد حصل نتيجه العمد او الزور، فهنا کان يحکم علي الشاهد بمثل ما حکم به علي المحکوم، فقد جاء في الوسائل انه قضي برجم رجل لتحقق شهاده اربعه شهود بانهم راوه يجامع امراه اجنبيه، الا ان شاهدا منهم رجع عن شهادته بعد اقامه الحد، فحکم عليه الامام بربع الديه، واضاف موضحا: انه اذا رجع اثنان منهم وقالا: شبه علينا، غرما نصف الديه، وان رجعوا کلهم وقالوا: شبه علينا غرموا الديه کامله، اما اذا قالوا: شهدنا بالزور قتلوا جميعا.

والحق ان هذا الحکم قد بلغ من الدقه في تطبيق العداله اقصاها، ذلک لان الشهاده يجب ان تکون علي اليقين لا الشک او التخمين، کما ان تعمد الشهاده زورا يکون سببا في انزال عقوبه الحد بحق من شهدوا ضده، لذا يقتضي الاقتصاص منهم بما آل اليه العقاب نفسه. ولما کانت عقوبه القصاص هي حق للمجني عليه او ذويه، لذا نجد الروايه الاخري التي تطرق الي ذکرها صاحب الجواهر تقول انه في الحاله الاخيره قال: ان شاء ولي المقتول ان يقتلهم جميعا او يقتل من يشاء منهم، ورد الثلاثه ثلاثه ارباع الديه الي اولياء المقتول.

ومن سوابقه الميمونه ان رجلين اتياه ومعهما رجل آخر شهدوا عليه بانه سرق فقطع الامام يده، ثم بعدها جاءوا اليه باخر قائلين: غلطنا في الاول انما السارق الحقيقي کان هذا، فابطل شهادتهما علي الاخر وضمنهما ديه الاول واضاف مقررا: (لو علمت انکما تعمدتما لقطعت ايديکما)[26] قصاصا لهما. وقد سار علي نهجه هذا کبار الفقهاء المسلمين، مثل مالک والشافعي واحمد، اذ خلصوا الي قاعده فقهيه مفادها: ان الجماعه توخذ بالواحد في القصاص.[27] .

فقرار الامام، آنف الذکر، يعني انه اخبر ان القصاص يلزم ان يقع علي کل واحد منهما فيما لو تعمدا قطع يده، وحيث ان القطع هو احد انواع القصاص لهذا يوخذ الجماعه بالواحد.[28] .

واذا کان رجوع الشاهد عن شهادته، بعد تنفيذ الحکم، يوجب الديه عند الشبهه، فما هو الحکم في المسائل المدنيه؟الاصل هو اعتبار الشهاده الاولي واهدار الشهاده الثانيه، وذلک استنادا لما رواه (ع) عن ابن عمه الرسول الاکرم (ص) قوله: (من شهد عندنا ثم غير اخذناه بالاولي وطرحنا الاخيره)[29] وعله ذلک تکمن في ان الشهاده کلما کانت اقرب وقتا الي الحادث کانت اکثر مصداقيه وادعي الي الاطمئنان لبعدها عن التاثير والتحوير.

ولا بد من التطرق الي شهادات النساء، فان عليا قضي بعدم قبول شهادتهن من جرائم القصاص والحدود کقاعده عامه في المسائل الجزائيه. اما في المسائل المدنيه فانه رجع الي النص القرآني الذي حسم الموقف بهذا الصدد في الايه 282 من سوره البقره، اذ لا يصح الاثبات الا بشاهدين عادلين، والا فشهاده رجل وامراتين عدا شهاده المراتين في النکاح عند الانکار حيث اجاز شهادتهما.[30] .

وتنبغي الاشاره الي سابقه قضائيه، بخصوص الشهادات المتقابله، وهي تلک التي تخص حادث سته اشخاص نزلوا شط الفرات للسباحه فغرق احدهم، فشهد اثنان منهم علي الثلاثه المتبقين بانهم اغرقوه، وشهد الثلاثه علي الاثنين بانهما اغرقاه. فهنا تحققت شهادات متقابله بينهما، ولم يتوفر من القرائن ما يدل علي مصداقيه احداهما دون الاخري او بالعکس، لهذا اتجه امير المومنين درءا للمفاسد ومنعا لذريعه مخاصمه ذوي المقتول لکلا الطرفين فقضي بالديه اخماسا عليهم جميعا، وقد علق الشيخ المفيد علي هذا الحکم بالقول: (لم يکن في قضيه احق بالصواب مما قضي به عليه السلام).[31] .

وهناک حالات لها خصوصيتها المتفرده في قضاء علي في مجال الشهاده، وقد سار علي نهجه فيها جل اعلام الامه وفقهائهم اللامعين، ولا عجب من ذلک ما دام هو باب مدينه علم الرسول وتلميذه الامين واقضي امته، نذکر منها:

اولا: اعتباره لشهاده الولد لوالده، فقد ذکر الاربلي، في کشف الغمه،[32] ان عليا قاضي يهوديا في درعه الذي شاهده بحيازته في مجلس قضاء شريح، فطالبه شريح بمن يشهد له بها، فشهد الحسن (ع) بالدرع، فرد شريح شهادته، فقال له الامام علي (ع): في اي کتاب وفي اي سنه وجدت ان شهاده الابن لابيه لا تقبل؟ واهتداء بهذا النهج فقد استدل به جمع من العلماء والائمه السلف، منهم احمدبن حنبل والمزني واسحق بن راهويه وابو ثور وابن المنذر في جواز شهاده الولد لوالده والاخ لاخيه.[33] .

ثانيا: اجاز الامام علي (ع) شهاده الاحداث في ما بينهم ما لم يتفرقوا لما في مثل هذا التفرق من شبهه لاحتمال حصول الضغوط عليهم للتاثير علي شهادتهم بالتغيير او التبديل، وهو ما يغلب حصوله في الحياه العمليه بفعل الضغوط، خصوصا عند فساد الذمم.

ثالثا: لم نجد، في سوابق الامام علي بن ابي طالب (ع)، ما يشير الي تاثير الظروف الاجتماعيه او الاقتصاديه وغيرها علي الشهادات، فالکل سواسيه ما دامت العداله متحققه فيهم، بغض النظر عن جنسهم او قومياتهم او مکانتهم الاجتماعيه. ففي احدي القضايا التي عرضت علي شريح رفض هذا القاضي قبول شهاده قنبر لانه مملوک، فاعتبر الامام هذا الرفض من قبيل الجور.[34] واذا کان بعض الفقهاء الاجلاء يتشددون في شهاده الکتابي فان الامام عليا (ع) قضي في احدي سوابقه بقبول شهاده شاهدين من النصاري علي کتابي اسلم، موسسا حکمه هذا علي النص القرآني الذي يقول: (ولتجدن اقربهم موده للذين آمنوا الذين قالوا انا نصاري)، وقد سئل (ع) ذات مره عن معني قوله تعالي (ذوا عدل منکم وآخران من غيرکم) فقال اللذان منکم هما مسلمان واللذان من غيرکم من اهل الکتا[35] وعلي هذا فان شهاده الکتابي لا غبار عليها ما دام عدلا ولا شبهه عليه، ولرب تساول يثار بشان قيمه الشهاده التي يدلي بها من فيه عوق، ومثل هذا التساول نجد الاجابه عليه واضحه من خلال قضيه استعصي حلها علي الخليفه الراشد عمربن الخطاب حيث، عندما جلب اليه قدامه بن مظعون متهما بشرب الخمر بشهاده شاهدين احدهما فيه عوق جنسي، فشهد احدهما انه رآه يشرب الخمر وشهد الاخر انه وجده في حاله قي ء، فعرض الامر علي الامام علي (ع) بعد ان التبس عليه واقع القضيه من جانبين، الاول ظنه بعدم تطابق الشهادتين، والثاني وجود العوق في احد الشاهدين، فقضي الامام بقبول شهادتيهما معللا قضاءه هذا بان مشاهده احدهما للجاني، وهو يشرب، ومشاهده الثاني له، وهو يقي ء، لا اختلاف فيهما، اما عوق احدهما فلا اثر له في صحه شهادته[36] ما دام ذلک العوق لا علاقه له بالسمع او البصر. وعلي هذا فان مثل تلک الفوارق لا اثر لها علي صحه الشهاده، وبهذا يکون الامام علي (ع) قد جسد مبدا المساواه لا بين الخصوم، بل حتي بين الشهود، ومن له علاقه بالقضيه مثار النزاع في مجلس قضائه وبالتالي تحقيق العداله في ادق حالاتها.

رابعا: وقضي (ع) بشهاده الشاهد الواحد ويمين المدعي ايام خلافته الراشده اهتداء بسنه الرسول الکريم،[37] وقد نهج نهجه بعض عمالقه الفقه الاسلامي، ونذکر منهم الامام الشافعي،[38] ودليل اثبات لما في حقوق العباد، کما انه اجاز شهاده النساء مع يمين المدعي في الدين، فاذا شهدت لصاحب الحق او طالبه -بکسر اللام- امراتان ويمينه اعتبر ذلک کافيا لاثبات الدين.[39] .

خامسا: واخيرا، فان من السوابق القضائيه للامام علي (ع) التي لم يعف عليها الزمن ما يدلنا علي انه کان قد قضي بشهاده الشاهد الواحد فقط في بعض الحالات، نذکر منها اثبات الولاده وقبوله لشهاده الامراه في غلام دفع زميله فاوقعه في بئر ومات،[40] وتجدر الاشاره الي ان الرسول الکريم (ص) قد سبقه في الاخذ بشهاده الواحد وذلک في قضايا السلب وقضايا العقود في السفر.[41] .

ولعل خير ما نختم به هذا المبحث، بصدد احکام الشهاده وما نستلهمه من قضاء امير المومنين علي (ع) من قواعد ومبادي ء تاصيليه، ما رواه النخعي عن واقعه دخول الحکم بن عيينه وسلمه بن کهيل علي ابي جعفر الامام محمد الباقر (ع)، وسالاه عن مدي الکفاءه الاثباتيه للشاهد الواحد مع اليمين، فاجابهما:

قضي به رسول اللّه، وقضي به علي عندکم في الکوفه. فقالا: هذا خلاف القرآن. فقال: اين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: ان اللّه يقول: واشهدوا ذوي عدل منکم، فقال لهما: هل ان قوله واشهدوا هو ان لا تقبل شهاده واحده مع اليمين؟

ثم اضاف قائلا: ان عليا کان جالسا، ذات يوم، في مسجد الکوفه، فمر به عبداللّهبن ثفيل التميمي[42] ومعه درع طلحه، فقال له علي (ع): هذه درع طلحه اخذت غلولا[43] يوم البصره، فقال له عبداللّه: فاجعل لي بيني وبينک قاضيک الذي ارتضيته للمسلمين، فقاضاه لدي شريح، وبعد ان اوضح الامام تفاصيل عائديه الدرع، قال له شريح: هات علي ما تقول بينه، فاتاه بولده الحسن (ع) فشهد انها درع طلحه اخذت غلولا يوم البصره في حرب صفين، فقال: هذا شاهد واحد ولا اقضي بها حتي يکون معه آخر، فدعا قنبر فشهد له بمثل ما شهد له الحسن، فقال شريح: هذا مملوک ولا اقضي بشهادته، وهنا بانت علامات عدم الارتياح في وجه الامام علي (ع) وقال لعبداللّه:

خذها فان هذا القضاء انطوي علي جور في ثلاث مواضع، فتحول اليه شريح وقال: سوف لا اقضي بين اثنين حتي تخبرني يا امير المومنين من اين قضيت بجور ثلاث مرات، فاجابه الامام (ع) قائلا: ويلک اني لما اخبرتک انها درع طلحه اخذت غلولا يوم البصره، فقلت: هات علي ما تقول بينه، وقد قال رسول اللّه: ما وجد غلولا اخذ بغير بينه، فقلت: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحده، ثم اتيتک بالحسن فشهد فقلت: هذا واحد ولا اقضي بشهاده واحده ويمين فهذه اثنان، ثم اتيتک بقنبر فشهد فقلت: هذا مملوک ولا اقضي بشهادته فهذه الثالثه، اذ ان شهاده المملوک اذا کان عدلا لا ترد. ثم قال له: ويلک وويحک، امام المسلمين يومن من امورهم، ما هو اعظم من هذا!.

فهذه القضيه قد اخطا فيها شريح في ثلاثه مواقع، الاول تغاضيه عن حديث الرسول الکريم في وجوب اعاده ما يوخذ غلولا من دون حاجه الي البينه لا بل انه انحاز الي جانب المتهم بقوله: (رجل لم يسمع الحديث) والجهل بالقانون لا يعد عذرا. والثاني ان شهاده الحسن کافيه للاثبات ما دامت قد اقترنت باليمين، لذا فان رفضها لا مسوغ شرعيا له، اما الثالث فهو عدم قبوله شهاده المملوک قنبر رغم کونه عدلا، وفي هذه المواقع الثلاثه جور واضح فعلا.









  1. هذا في ايامنا الدنيا، اما في الاخره، فتضاف الي الانسان اشياء اخري، ومنها جوارحه کما يدلنا قوله تعالي: (ويوم يحشر اعداء اللّه الي النار فهم يوزعون حتي اذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما کانوا يعملون) فالشهاده هنا يراد بها الاقرار بوقائع معينه کان قد ارتبکها الانسان ايام حياته الدنيا، فتقول اليد: انا فعلت کذا وکذا وتقول الرجل: انا مشيت الي کذا، وهکذا.
  2. للتوسع راجع: کتاب الشهادات من جواهر الکلام، سبق ذکره.
  3. کما جاء في الوسائل والي المعني نفسه اشار الزيلعي، نصب الرايه في تخريج احاديث الهوايه، ج 4ص 80.
  4. الدکتور احمد البهي، ص 5سبق ذکره.
  5. سوره البقره، آيه:،281وقد اختلف في معني هذا النص القرآني الي ثلاثه اقوال، الاول اذا ما دعوا اليه هو لاثبات الشهاده في الکتاب وتحملها، والثاني اذا دعوا لاقامتها، والثالث لاقامتها واثباتها، وهو اعم فائده وادل وهو الاتجاه الذي نستشفه من منهج الامام علي کما هو موضح في المتن، راجع الطوسي، تفسير التبيان، المجلد الثاني، ص 374ف،375طبع بيروت.
  6. الوسائل، باب الشهاده، سبق ذکره.
  7. سوره البقره آيه: 283.
  8. ابن ابي الحديد في شرح النهج، المجلد الرابع، ص 37.
  9. محرک الشکوي هو المشتکي الذي يطلب الشکوي ضد المتهم الذي اعتدي عليه او اضره من فعله الاجرامي، اما المخبر فهو من يوصل خبر الجريمه الي السلطه المختصه.
  10. القراح بالفتح، يراد به البستان او المزرعه غير المسوره.
  11. الدنيوري، عيون الاخبار، ج 1ص 68.
  12. الساروي، الحق المبين، ص 88دمشق 1962.
  13. کلاعب النرد والمغني ومستمعه، الوسائل، ان شئت التوسع.
  14. سوره البقره، آيه:،282ويروي عن الرسول الکريم قوله: (لا تقبل شهاده خصم ولا فتين ولا ذي جنه)، عبد القادر عوده، التشريع الجنائي الاسلامي، ج 2ص 408.
  15. ومن قضائه قبوله شهاده المحدود الذي قطع لثبوت توبته، کما في الوسائل.
  16. الارشاد، ص 128وقضاء امير المومنين، ص 16سبق ذکرهما.
  17. محمد مهدي الحايري، الکوکب الدري، ج 2ص 45طبعه 1353ه.
  18. عن شرطه الخميس راجع: فهرست ابن النديم، ص 249دار المعرفه، بيروت، والدکتور مصطفي جواد، مقاله المنشور بمجله الشرطه، العدد الاول، عام 62.
  19. العقر، اي الديه عما اصابها من جرح، يقال: عقره اي جرحه، وکلب عقور اي جروح واصله ان واط ي ء البکر يعقرها اذا افتضها الکوکب الدري، ج 2ص 44.
  20. فروع الکافي، سبق ذکره.
  21. سوره البقره، آيه: 282.
  22. راجع سوره النساء، آيه،10وسوره النرو، آيه 4.
  23. الحق المبين، ص 22سبق ذکره.
  24. روي الکليني في فروع الکافي ان الرسول الاعظم قال لسعدفبن عباده: ان اللّه جعل لکل شي ء حدا، وجعل لکل من تعدي حدا من حدود اللّه حدا، وجعل ما دون الاربعه شهداء ستورا علي المسلمين.
  25. وقد استقر القضاء عندنا حاليا علي هذا الاتجاه، اي کون الشهادات کلما کانت اقرب زمنا للحادث کلما تکون ادعي ل 7 لاطمئنان، واکثر قناعه ومصداقيه، راجع بحثنا: سلطه قاضي التحقيق في تقدير الادله، مسحوب بالرونيو، ص 65عام 1992.
  26. ينظر: مسائل الخلاف للشيخ الطوسي، المجلد الثاني، ص 247طبعه،1370وينظر ايضا السمناني، روضه القضاه، ج 1ص 229تحقيق الدکتور صلاح الدين التاهي، بغداد 1389ه.
  27. عبد القادر عوده، التشريع الجنائي الاسلامي، ج 2ص 216.
  28. المحقق الحلي، شرائع الاسلام، ج 4ص 200.
  29. مباني تکمله المنهاج، ج 1ص 151ه 1.
  30. راجع الوسائل، سبق ذکره.
  31. للاطلاع علي تفاصيل هذه القضيه، راجع: الارشاد، ص 130سبق ذکره.
  32. وقد تطرق الي هذه القضيه، ايضا، ابن حجر في صواعقه، ص 131.
  33. الاربلي، کشف الغمه، ج 1ص 135طبعه عام 1381ه.
  34. الوسائل، الطبعه الحجريه غير المرقمه، سبق ذکرها.
  35. من لا يحضره الفقيه، ج 3ص 29.
  36. الساروي، الحق المبين، ص 22ان شئت الاطلاع علي تفاصيل القضيه.
  37. ابن المستوفي، تاريخ اربل، ج 1ص 405والتشريع الجنائي الاسلامي، ج 2ص 319.
  38. مسائل الخلاف، المجلد الثاني، ص 241سبق ذکره.
  39. امالي الصدوق، ص 324طبعه،1970وکذا الوسائل، سبق ذکره.
  40. من لا يحضره الفقيه، ج 1ص 31سبق ذکره.
  41. الدکتور التجکاني، النظريه العامه للقضاء، ص 246سبق ذکره.
  42. هکذا جاء في جواهر الکلام، اما في الوسائل فقد ورد: قفل بدلا عن ثفيل.
  43. الغلول ما يوخذ من الغنيمه خيانه، مختار الصحاح، ص 479.