الاقرار











الاقرار



الاقرار لغه الاثبات، وهو يعني الاعتراف، وفي المفهوم الفقهي يعرف بانه (اخبار عن ثبوت الحق)[1] حيث يعترف المدعي عليه او المشکو منه بما نسب اليه من ادعاء او ضده من اتهام، کان يدعي المدعي بان له عليه مبلغا من المال، وليکن عشره آلاف دينار، فيقر المدعي عليه معترفا به، او يدعي بانه قد سرق منه المال المذکور فيعترف المشکو منه بالسرقه.

ويستمد الاقرار حجيته الشرعيه اساسا، من القرآن الکريم، حيث يقول جلت عزته: (يا ايها الذين آمنوا کونوا قوامين بالقسط شهداء للّه ولو علي انفسکم).[2] فالشهاده علي النفس، في مذهب المفسرين، تعني الاقرار، وهو دليل اثبات للحق المدعي به، وقد امر به سبحانه وتعالي احقاقا للحق ومجانبه للباطل والمماطله واطاله الخصومه، حيث اکده تعالي في سوره اخري بقوله: (وليملل الذي عليه الحق وليتق اللّه ربه)،[3] فالاملال يعني الاملاء وهو لا يتحقق الا بالاقرار.[4] .

ومنهج الامام علي، او موقفه من الاقرار الذي اعتبره دليل اثبات، لا شائبه فيه عند وجود ما يقنع بصحته، فقد قضي باقامه الحد علي قوم شربوا الخمر في الشام، بعد ان تيقن من سلامه اعترافهم واقرارهم الصادق بشرب الخمر.[5] ومن خلال استقراء سوابق الامام القضائيه وحيثيات احکامه فيها فان الذي يستلخص منها عده قواعد ومبادي ء منها ما يتعلق بحجيته ومنها ما يخص شروط صحته:

فالاقرار ينبع من اراده المقر المنفرده في ترتيب اثر قاصر عليه، لهذا يجب ان تتحقق في المقر الشروط اللازم تحققها في التصرفات الشرعيه من اهليه ورضا، اضافه الي ان يکون المقر به معلوما وان يکون الاقرار بمناي عن ايه شبهه -وخصوصا في المسائل الجزائيه کما تدلنا سوابقه العادله- فاقرار فاقد الاهليه او ناقصها لا يمکن الرکون اليه، حيث لا يصح اقرار الصبي والمجنون والمعتوه ومن في حکمه،[6] کما لا يقبل اقرار من لحق ارادته عيب من العيوب کالاکراه او حاله الضروره.[7] .

ومن تطبيقات الامام القضائيه، في هذا الباب، نذکر قضيه المجنونه التي ارتکبت الفعل الفاحش، فلم يوافق الامام علي (ع) علي اقامه حد الزني عليها رغم ثبوت الدليل ضدها، وقال: هذه مجنونه آل فلان وان النبي قال: (رفع القلم عن المجنون حتي يفيق، وعن الغلام حتي يحتلم، وعن النائم حتي يستيقظ). کما جاء في حيثيات حکمه ايضا: (انها مغلوبه علي عقلها ونفسها)[8] لهذا قرر الافراج عنها وغلق قضيتها. وفي قضيه اخري تحصلت الادله الکافيه ضد امراه في ارتکابها الفعل الفاحش مع رجل غريب، وعندما سالها الامام علي (ع) عن حقيقه قضيتها اجابت انه (کان لاهلي ابل، فخرجت في ابل اهلي وحملت معي ماء ولم يکن في ابل اهلي لبن، وخرج خليطنا وکان في ابله لبن فنفذ مائي فاستسقيته فابي ان يسقيني حتي امکنه من نفسي فابيت، فلما کادت نفسي تخرج امکنته من نفسي کرها) فقال الامام: (اللّه اکبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه، واخلي سبيلها.[9] .

ففي القضيه الاولي، کان اتيان الفاحشه من قبل المجنونه وهي فاقده لتمام الوعي والادراک ومنعدمه الاهليه، فلا عبره بالبينه المثاره ضدها ولا قيمه لاقرارها بارتکابها جريمه الزني. اما القضيه الثانيه فان اقرار الجانيه انما ثبت لدي الامام انه کان بدافع الاضطرار في ارتکابها الفعل الفاحش الذي يشکل احد عيوب الاراده، وقد بلغت دقته في وصفه للفعل منتهاها، اذ لم يعتد بالوصف الذي اضفته تلک الامراه علي فعلها، وهو الاکراه، انما کف فعلها بوصف آخر يقع في دائره حاله الضروره لا کما ظن احد الکتاب المحدثين ب (ان الجريمه في هذه الحاله لم تدخل تحت حاله الاکراه)،[10] اي کما وصفته المتهمه علي ما تقدم، ولکن عند تامل مدلول آيه الاضطرار التي استند اليها الامام في حکمه وتامل مفهوم الاضطرار لتراجع مثل ذلک الکاتب عن رايه المذکور، فالاضطرار رغم ان حکمه هو حکم الاکراه نفسه تماما الا انه يختلف عنه من حيث المعني، فرغم انهما ينفيان المسووليه الجزائيه عن مرتکب الفعل الاجرامي في المنظور الاسلامي، ولکن المراه في هذه القضيه لم تکن مکرهه حيث ان الرجل الغريب لم يستعمل ايه وسيله من

وسائل الاکراه معها لنيل مرامه منها، ولم تقسر علي ارتکاب الفعل الفاحش انما قبلت، بمحض ارادتها، العرض الذي تقدم به اليها ذلک الرجل الفاسق لقاء ان يسقيها الماء، وتلافيا لموتها قبلت منه ذلک العرض، فهي هنا مضطره لا مکرهه علي اتيان الفعل الفاحش، وهو ما قرره الامام بکل دقه سواء في الوصف ام في الحکم.

وقضاء امير المومنين علي (ع) يدلنا علي عدم الرکون الي الاقرار بوصفه دليل اثبات من دون تمحيص او تدقيق، اذ کثيرا ما کان يهدره حتي لو تحققت شروط صحته احيانا، انطلاقا من نظرته الحيه والانسانيه لموضوع التجريم والعقاب الذي يستنتج منه وجوب تدقيق النظر لا في مجرد الاقرار بل في ظروف الحادث وملابساته وما اکتنف الجاني من ظروف. ونذکر علي سبيل المثال، ما يروي من ان رجلا جاء اليه -اي الامام علي (ع) - واقر امامه بارتکابه جنايه السرقه، فقال له الامام: اتقرا شيئا من القرآن؟ فقال: نعم سوره البقره. فقال له: قد وهبت يدک لسوره البقره، ثم اضاف قائلا: (اذا قامت البينه فليس للامام ان يعفو) ولکن (اذا اقر الرجل علي نفس فذاک الي الامام ان شاء عفا وان شاء قطع).[11] .

والذي نستشفه من هذه القضيه ان قرار الحکم العلوي فيها قد تمخضت عنه جمله قواعد وفوائد في مقدمتها انه لا يجوز عند توفير بينه جريمه جديه کجريمه السرقه هذه -اي النصاب المطلوب في الشهاده- العفو عن مرتکبها، ولکن اذا ما توفر ضده دليل الاعتراف فقط فان مساله العفو عنه وارده، ومتروک امر تقديرها الي القاضي او الامام، وهنا وجد الامام ما يسوغ العفو عن السارق في هذه القضيه کونه يقرا سوره البقره ويحفظها، اي فيه مسحه من الايمان، والا لما قرا تلک السوره الطويله وحفظها. والقرآن، کما هو معلوم، يهدي للتي هي احسن واقوم في مسار سلوک العبد الذي يلازم قراءته او حفظه، ويتمعن في معانيه ومدلولات آياته، فضلا عن فضائل قراءته الاخري.

وفي قضيه اخري اقر فيها المتهم امام الامام علي بن ابي طالب، بانه قام بقتل شخص، وملخص الحادث انه عثر علي جثه رجل وجد مرميا في خربه، وشوهد بالقرب منه رجل وبيده سکين ملطخه بالدم، فاخذ به الي امير المومنين الامام علي (ع) فاقر امامه انه هو الذي ارتکب جنايه القتل هذه، کما ذکرنا. وفي هذه الاثناء جاء رجل آخر وادعي انه القاتل الحقيقي، فسال الامام المتهم الاول عن سر اعترافه بالقتل، فاجاب: اني رجل قصاب، وکنت قد ذبحت شاه وبيدي السکين الملطخه بالدم، فاخذني هولاء وقالوا: انت الذي قتلت صاحبنا. فقلت: ما يغنيني الانکار وقد تم ضبط ي قرب الجثه وبيدي السکين الملطخه بالدم، لهذا اعترفت بقتله. ثم سال الامام المتهم الثاني عن اقراره فاجاب بما يفيد انه قتل الرجل بدافع الطمع في ماله، اذ کان وقت الحادث ليلا فصادف ان جاءت الشرطه (العسس) وعندما حاول الخروج من الخربه والهرب صادفه القصاب المسکين فاستتر منه في بعض زوايا الخربه، وتم مسکه من قبل العسس وافاد موضحا انه لولا اقراره بهذه الحقيقه فانه سيتحمل دم هذا القصاب ايضا، وهنا وجه الامام سوالا لابنه الحسن (ع) الذي کان حضرا قائلا: ما الحکم في هذا؟

فاجابه: (اما هذا فان کان قد قتل رجلا فقد احيا نفسا واللّه عز وجل يقول: (ومن احياها فکانما احياء الناس جميعا، فخلي علي عنهما ودفع ديه المقتول من بيت المال.[12] .

ففي هذه القضيه نجد ان الامام قد اخلي سبيل القصاب رغم اعترافه الصريح بالقتل، اذ انه فحص هذا الاعتراف وقارنه باعتراف المتهم الثاني فتبين له، من خلال ملابسات الحادث وقرائنه، انه اعتراف غير صحيح، لهذا اهدره. اما المتهم الثاني الذي اخلي سبيله هو الاخر فان مرد ذلک يعود الي ان اقراره هذا قد انقذ حياه القصاب من القصاص، کما ان مبادرته التلقائيه بالاعتراف تمثل قرينه علي ندمه وتوبته، والا لما قدم نفسه الي العداله، وللسببين المذکورين صفح عنه الامام واخلي سبيله، لا بل انه، فضلا عن ذلک، جعل ديه المقتول من بيت المال تشجيعا للقاتل الحقيقي وتثمينا لمصداقيته وهدايته للتوبه ورحمه به وبعائلته، اذ قد يکون من الفقراء المحتاجين اصلا الي المال، لهذا اغراه الشيطان ونفذ اليه من هذه الثغره التي يقول فيها الامام: (لو کان الفقر رجلا قتلته)، فرکب هواه واقدم علي جريمته لحاجته الي المال، ولا يفوتنا قول الامام علي (ع) ان (العفو عن المقر لا عن المصر)،[13] اما في حاله انکار المتهم لما اسند اليه من اتهام وعدم وجود ما يعزز ادعاء المشتکي ضده فيصار الي رفض شکواه وغلق دعواه، فقد روي[14] ان رجلا جاء الي الامام علي (ع) مدعيا ان له شاهدين علي آخر کان قد سرقه، وعندما عجز عن جلب شهوده تم اخلاء سبيل المشکو منه لانکاره ما اسند اليه من فعل السرقه.

هذا والثابت ان الامام علي (ع) کان لا يعتد بالاعتراف المقترن بالاکراه او التهديد، ومن سوابقه في هذا المجال نذکر اعتراف احدي الحوامل امام الخليفه عمر بانها حملت سفاحا، فامر عمر برجمها، وصادف في الطريق ان شاهدها الامام علي (ع) فسال عن موضوعها، وبعدما علم بخبرها استفسر من عمر عما اذا کان قد اخافها او نهرها، فاجابه بالايجاب، فقال علي (ع): (يا عمر اما سمعت قول الرسول: لا حد علي معترف بعد البلاء انه من قيدت او حبست او تهددت فلا اقرار له). لهذا اخلي عمر سبيلها.[15] وعلي ضوء ما تقدم يتضح جليا ان منظور الامام علي ازاء الاقرار، بوصفه دليلا للاثبات يقوم علي التمحيص والتحليل، وکثيرا ما يتردد في قبوله حتي عند صحته في المسائل الجزائيه، لا بل انه لم يقبله في الجرائم الحديه ما لم يعزز بدليل آخر، فهناک اکثر من سابقه قضائيه لم يقم فيها حد الزنا الا بعد اصرار الجاني علي الاعتراف واقراره في اربع مرات عبر فواصل زمنيه کان في کل مره فيها يود الامام ان لا يعود اليه الجاني کي يکرر له الاعتراف ويطلب منه اقامه الحد عليه بکلمه (طهرني) عسي ان يرعوي ويتوب الي اللّه تعالي توبه نصوحه، اذ اعتبر کل اعتراف هنا بمثابه شهاده، لهذا لم يکن له من بد -في مثل هکذا حالات- من انزال عقوبه الحد بالجاني[16] فجرائم الحدود تدرا بالشبهات، وان الاعتراف وحده لا يمثل دليلا کافيا للادانه، والحکم عنده في الاعم الاغلب من قضائه، وحتي لو اقتنع بصحه الاقرار فامر باقامه الحد استنادا عليه امر متروک تقديره للامام او القاضي، لان الاساس في جرائم الحدود وخصوصا منها ما يمس العرض والشرف هو الستر، کما تدلنا عليه سنه الرسول الکريم.[17] .

ومن سوابقه (ص) نذکر قراره لمن حمل رجلا علي الاقرار عنده بالزنا الذي ورد فيه (هلا سترته بثوبک وسماعها بالبينه)، فالاقرار لم يعتد به هنا مفضلا الستر في هکذا حاله لعدم وجود البينه الشخصيه -اي الشهاده المطلوبه وهو الطريق الذي سار عليه ابن عمه الامام علي (ع). اما في المسائل المدنيه، فان الاقرار يکفي للاثبات ما دام قد صدر من شخص کامل الاهليه، وبارادته الحره والواعيه، وبشکل لا لبس فيه ولا شبهه، کما يدلنا عليه منهجه (ع)، فقد قضي في رجل مات وترک ورثه فاقر احدهم بدين علي ابيه انه يلزمه ذلک لوحده من حصته في الترکه، ولکن في حاله ما اذا اقر اثنان منهم، وکانا عدلين، شمل اقرارهما بقيه حصص الورثه حيث اعتبرا بحکم الشهود، وفي حاله عدم ثبوت عدالتهما الزما من حصتهما بقدر ما ورثا.[18] اي انه هنا اعتبر الاقرار حجه قاصره علي المقر، وهذا هو عين العدل والمنطق، وقد سار علي هذا النهج المشترعون الوضعيون حاليا. وبمراجعه وصيه الامام علي الي شريح يتضح لنا ان البينه في الحقوق الماليه علي المدعي واليمين علي المدعي عليه عند الانکار، اما في حاله الاقرار فانه يبطل اليمين[19] وکذا في حاله المملوک فان ادعي الحريه فعلي مالکه اثبات خلاف ذلک لقوله (ع) ان (الناس کلهم احرار الا من اقر علي نفسه بالعبوديه، وهو مدرک، من عبد او امه).[20] .









  1. ينظر، مثلا، الدکتور محيي هلال السرحان في رسالته للدکتوراه، ج 1ص 173سبق ذکرها، والدکتور صلاح الدين الناهي، الوجيز في مبادي ء الاثبات، ص 60طبعه 1985.
  2. سوره النساء، آيه: 135.
  3. سوره البقره، آيه: 282.
  4. محمد سليمان الاشقر، زبده التفسير، ص 60الکويت 1988.
  5. مناقب الخوارزمي، ص 53سبق ذکره.
  6. ممن لحق باهليته موثر سلبي علي ادراکه وتمييزه، وقد تناول الفقهاء تفاصيل احکام ذلک فيمکن مراجعه موسوعاتهم وللمقارنه في القانون الوضعي راجع: الدکتور عبد المجيد الحکيم، مصادر الالتزام، ص 107.
  7. تطرق صاحب کتاب نزهه الناظر الي الحالات التي لا يقبل فيها الاقرار، فراجعه ص 117طبعه النجف 1976لمولفه المحقق يحيي فبن سعيد.
  8. الارشاد، ص 119ومناقب الخوارزمي ص 38وکشف المراد، ص 410سبق ذکرهما.
  9. الارشاد، ص 11والتستري في قضائه، ص 40.
  10. احمد فتحي بهنسي، الحدود والتعزير، ص 53مصر 1965.
  11. راجع الوسائل، وقد اورد هذه القضيه محمد جواد مغنيه، فقه الامام الصادق، ج 6ص 85.
  12. تطرق الي ذکر هذه القضيه الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 3ص 14وابن قيم الجوزيه، الطرق الحکميه في السياسه الشرعيه، ص 61فو 62وصاحب الوسائل واضرابهم.
  13. ابن ابي الحديد في شرح النهج، المجلد الخامس، ص 955طبعه 1983.
  14. السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 180.
  15. الحافظ الموفق بن احمد الحنفي الخوارزمي، المناقب، ص 39سبق ذکره.
  16. ان شئت الاطلاع علي تلک القضايا راجع: فروع الکافي والتستري في قضائه، وقضيته في قضاء الرسول الکريم ذکرها عبد القادر عوده، التشريع الجنائي، ج 2ص 378.
  17. راجع باب القضاء في کتابي الوسائل وجواهر الکلام.
  18. محمد جواد مغنيه، فقه الامام، ج 5ص 179.
  19. لمزيد من التفصيل، راجع: الوسائل.
  20. السيد الخوئي، مباني تکمله المنهاج، ج 1ص 69الهامش، بغداد 1978.