فهم الدعوي











فهم الدعوي



ينبغي علي القاضي، حال رفع الدعوي امامه، ان يبذل جهده لفهمها فهما شاملا، فيقرا مضمون الادعاء ويتامله -تحريريا کان ام شفهيا- ويبذل اقصي وسعه للوقوف علي سر التخاصم فيها -عبر البينات والدفوع المقدمه اليه من دون ايه شکليه او قيود وملاحظه ما يصدر من الطرفين من اشارات او امارات وما تلوح علي محياهم من دلالات، لاکتشاف ما يشوب الدعوي من ملابسات ومعرفه ظروفها وما احاط بها وبطرفيها من مبهمات کي يلم بجزئياتها، ناهيک عن جوهرها لفهم تفاصيلها بشکل لا لبس فيه قبل ان يصدر قراره الحاسم فيها. ولقد ورد في القرآن الکريم نحو ثلاث عشره آيه تخص الاحکام المتعلقه بسير الدعوي وتنظيم اجراءاتها.[1] .

فمن القصص القرآني نذکر ما ورد من نزاع عرض امام فرعون مصر بين زوجته واحد العاملين في قصره، وهو نبي اللّه يوسف (ع)، اذ اتهمته بمراودتها عن نفسها ومحاولته ارغامها علي الفاحشه، ولکن يوسف انکر التهمه، وکادت مکيدتها تنجح لولا احد وزراء الفرعون، وهو من اقاربها، فقد استخدم مهارته في التحقيق بعد فهمه بشکل دقيق مغزي التخاصم بينهما واهتدي الي وسيله -بهدي الباري تعالي- اعانته في کشف الحقيقه علي الملا -بعدما لاحظ مغريات الجمال والفتنه التي اسبغها الباري تعالي علي يوسف- الا وهي النظر الي قميص يوسف الذي تبين منه انه قد شق من الخلف، فکانت النتيجه التي توصل اليها هي براءه يوسف (ع)،[2] فلولا فهمه لتفاصيل النزاع، موضوع الدعوي وجوهره لما توصل الوزير المذکور الي تلک الحقيقه، فاعمال الفکر، بغيه فهم الدعوي علي حقيقتها هو اول ما يجب علي القاضي مراعاته.

ومن الحکايات ذات العلاقه نذکر واقعه الحکم الذي قرره النبي سليمان (ع) بين امراتين لکل منهما ابن، وقد اکل الذئب احدهما، فادعت کل منهما ان الابن الناجي هو ابنها، وما استعمله سليمان من اجراء کشف من خلاله الحقيقه عبر فهمه بان عاطفه الامومه هي اقوي تاثيرا علي فراق الام الحقيقيه لابنها، وذلک علي اثر طلبه سکينا ليقد الطفل المتنازع عليه بينهما مناصفه، ما دامت اي منهما لم تقدم اليه الدليل في اثبات امومتها له، فلم يکن من الصغيره الا التنازل عن الابن لغريمتها لقاء ابقائه حيا فحکم لها به،[3] استدلالا علي الواقع الفعلي بقرينه الشفقه التي لا تفسير لها الا الامومه، وقد عرضت قضيه مماثله تماما علي الامام علي بن ابي طالب (ع) فقضي فيها بالحکم نفسه -کما سبق واشرنا- فلولا فهمه الدقيق لحقيقه الحادث مثار النزاع وسر الاتهام والتنازع الذي يکمن في الغيره والحسد لما توصل الي حکمه الصائب. هذا خصوصا وان کيدهن کيد عظيم حسب التعبير القرآني الکريم.

فالقاضي، اذن، عليه الا يکتفي بادني فهم دون اقصاه حسب تعبير الامام (ع) - انما عليه الخوض في زوايا الدعوي لان في الزوايا خبايا -کما يقال- ولا بد من ان يستقصي امرها اشد الاستقصاء لفهمها جيدا، لان النظره الاولي حمقاء کما يروي عن الرسول الکريم، لهذا نجد الامام (ع) عندما عرضت عليه قضيه الزوجين اللذين ماتا في الطاعون علي فراش واحد وما التبس في امر الميراث فيهما، تبين له ان يد الرجل ورجله کانتا علي المراه فقرر الميراث للرجل، وقال: انه مات بعدها[4] فقوله هذا لم يکن اعتباطيا، اذ لولا فهمه لما احاط بالحادث من وقائع لما کشف حقيقه کون الوفاه لم تحصل لهما في الوقت نفسه، بدليل وضع الرجل يده ورجله علي امراته، اي انه کان لا يزال حيا بعدها وهو يعالج المرض، الا انه لم يقو علي مواجهته فمات هو الاخر بعدها، فهذه الوقائع قرائن لا تقبل اثبات العکس لانها ماديه،[5] لهذا استند عليها الامام في حکمه.

ونود ان نختم هذا المطلب بسابقه قضائيه اخري للامام علي (ع) حصلت في مجلس الرسول الکريم، ومجملها[6] انه (ص) کان جالسا مع اصحابه ذات يوم، فجاءه خصمان، فقال احدهما: ان لي حمارا وان لهذا بقره وان بقرته قتلت حماري، فبدا رجل من الصحابه وتسرع في الحکم قائلا: لا ضمان علي البهائم، فالتفت الرسول الکريم الي الامام علي (ع) الذي کان ضمن الحاضرين في مجلس الرسول وقال له: اقض بينهما يا علي، فلم يکن من الامام اصدار قراره الا بعد فهمه وتعمقه في کيفيه حصول الحادث مثار هذه الدعوي، اذ استفسر منهما عما اذا کانا مرسلين ام مشدودين وعما اذا کان احدهما مشدودا والاخر مرسلا، ولما تبين له من خلال الاقوال ان الحمار کان مشدودا وان البقره مرسله وان صاحبها وقت الحادث کان معها، وبعد ان حصل له العلم بهذه الوقائع قضي (ع) علي صاحب البقره بضمان قيمه الحمار لتقصيره المستفاد من تلک الوقائع.[7] .









  1. عبد الوهاب خلاف، علم اصول الفقه، ص 33الکويت، 1972.
  2. راجع الايات 23ف 28من سوره يوسف.
  3. ينظر الدکتور محمد الحبيب التجکاني، النظريه العامه للقضاء، ص 48سبق ذکره.
  4. التستري، قضاء امير المومنين، ص 59سبق ذکره.
  5. في مفهوم هذه القرائن يمکن مراجعه بحثنا: (سلطه قاضي التحقيق في تقدير الادله)، المسحوب بالرونيو عام 1992.
  6. الشبلنجي، نور الابصار، ص 79بغداد 1984.
  7. ومناط هذا التقصير هو ما يطلق عليه في المصطلح القانوني المعاصر، بالمسووليه المدنيه بشقها التقصيري وقد عرفت الشريعه الاسلاميه احکام هذه المسووليه، وفصلتها الموسوعه الفقهيه تحت عنوان: (الضمان) ينظر، مثلا، الدکتور حسن الخطيب، نطاق المسووليه المدنيه والتقصيريه والعقديه، ص 296وما بعدها، وهي رساله دکتوراه، طبع،1965وکذا الدکتور عبد المجيد الحکيم في شرحه للقانون المدني، الجزء الاول في مصادر الالتزام، ص 421وما بعدها، ان شئت التوسع، بغداد 1963.