تمهيد: مقتطفات من نصوص الامام علي في حقل القضاء











تمهيد: مقتطفات من نصوص الامام علي في حقل القضاء



وددت ان امهد، لهذا الجهد، ووفقا لمتطلبات منهج البحث وخطته، بايراد بعض النصوص النثريه، من بلاغه امير المومنين علي بن ابي طالب (ع)، فاخترت نصوصا من خطبه وکتبه ووصاياه، في ما يخص حقل القضاء. وتتميز هذه النصوص بان الفکر يقف ازاءها موقف اجلال واکبار، وذلک بسبب ما تنطوي عليه من دلالات فريده وتميز من سواها في بعد الرويه والدقه في التعبير والمعني واحقاق الحق. وقد نخل فيها الامام (ع) مخزون رايه السديد وعصاره فکره الرشيد. وارجو ان تکون هذه النصوص موديه للغرض، بوصفها دليلا تحليليا ومنهاجا نظريا وتطبيقيا للفصول التاليه.

الفقره الاولي: ما جاء في عهده الاغر الي مالک الاشتر، حين ولاه مصر، عن ضوابط القاضي الکف ء، علي نحو ما اورده الشريف الرضي في نهج البلاغه:

(ثم اختر للحکم بين الناس افضل رعيتک في نفسک ممن لا تضيق به الامور، ولا يمحکه الخصوم، ولا يتمادي في اثبات الزله، ولا يحصر من الفي ء الي الحق اذا عرفه، ولا تشرف نفسه علي طمع، ولا يکتفي بادني فهم دون اقصاه، واوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج واقلهم تبرما بمراجعه الخصم واصبرهم علي تکشيف الامور، واصرمهم عند اتضاح الحکم، ممن لا يزدهيه اطراء ولا يستمليه اغراء واولئک قليل.

ثم اکثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الي الناس، واعطه من المنزله ما لا يطمع فيه غيره من خاصتک، ليامن بذلک اغتيال الرجال له عندک. فانظر في ذلک نظرا بليغا فان هذا الدين قد کان اسيرا في ايدي الاشرار يعمل فيه بالهوي وتطلب به الدنيا).[1] .

الفقره الثانيه: في صفه من يتصدي للقضاء بين الامه وهو ليس باهل، ورد من کلام له (ع) حيث قال:

(ان ابغض الخلائق الي اللّه رجلان: رجل وکله اللّه الي نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بکلام بدعه ودعاء ضلاله، فهو فتنه لمن افتتن به، ضال عن هدي من کان قبله، مضل لمن اقتدي به في حياته وبعد وفاته حمال خطايا غيره رهن بخطيئته.

ورجل قمش جهلا موضع في جهاله، عاد في اغباش الفتنه، عم في عقد الهدنه قد سماه اشباه الناس عالما وليس به بکر فاستکثر من جمع ما قل منه خير مما کثر حتي ارتوي من آض واکتنز من غير طائل. جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس علي غيره فان نزلت به احدي المبهمات هيا له حشوا رثا من رايه، ثم قطع به من لبس الشبهات في مثل نسج العنکبوت لا يدري اصاب ام اخطا، فان اصاب خاف ان يکون قد اخطا وان اخطا رجا ان يکون قد اصاب، جاهل خباط جهالات عاش رکاب عشوات، لم بعضا من العلم بضرس قاطع، يذري الروايات اذراء الريح الهشيم، لا ملي ء واللّه باصدار ما ورد عليه ولا هو اهل لما فوض اليه، لا يحسب العلم في شي ء مما انکره ولا يري ان من وراء ما يلغ مذهبا لغيره. وان اظلم عليه امر اکتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث، الي اللّه اشکو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا، ليس فيهم سلعه ابور من الکتاب اذا تلي حق تلاوته ولا سلعه انفق بيعا ولا اغلي ثمنا من الکتاب اذا حرف من مواضعه، ولا عندهم انکر من المعروف ولا اعرف من المنکر).

هذا نص ما ورد في نهج البلاغه[2] وهو يختلف بعض الشي ء في عباراته لا في معناه عما اورده ابن قتيبه في عيون الاخبار.[3] .

الفقره الثالثه: وفي هذه الفقره ننقل نصا يتضمن راي الامام علي (ع) في اختلاف حکم القضاه في القضيه الواحده في زمن واحد، فاختلافهم هذا في رايه -وبحق- دليل علي ضعفهم باصول الاستنباط، حيث يقول:

(ترد علي احدهم القضيه في حکم من الاحکام فيحکم فيها برايه، ثم ترد تلک القضيه بعينها علي غيره فيحکم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاه بذلک عند الامام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، والههم واحد ونبيهم واحد وکتابهم واحد.

افامرهم اللّه تعالي بالاختلاف فاطاعوه ام نهاهم عنه فعصوه، ام انزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم علي اتمامه، ام کانوا شرکاء له فلهم ان يقولوا وعليه ان يرضي ام انزل اللّه سبحانه دينا تاما فقصر الرسول (ص) عن تبليغه وادائه واللّه سبحانه يقول: (ما فرطنا في الکتاب من شي ء) فيه تبيان کل شي ء، وذکر الکتاب يصدق بعضه بعضا وانه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو کان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا کثيرا) وان القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق لا تفني عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تکشف الظلمات الا به).[4] .

الفقره الرابعه: وفيها نذکر ما جاء من وصيه له (ع) لشريح القاضي علمه فيها آداب القضاء، اذ جاء فيها:[5] .

(انظر الي اهل المعک والمطل ودفع حقوق الناس من اهل المقدره واليسار،[6] فمن يدلي باموال الناس الي الحکام فخذ للناس بحقوقهم منهم وبع فيها العقار والديار، فاني سمعت رسول اللّه (ص) يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم، ومن لم يکن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه.

واعلم انه لا يحمل الناس علي الحق الا من ورعهم عن الباطل ثم آس بين المسلمين بوجهک ومنطقک ومجلسک حتي لا يطمع قريبک في حيفک ولا يياس عدوک من عدلک.[7] .

ورد اليمين علي المدعي مع بينته فان ذلک اجلي للعمق واثبت في القضاء واعلم ان المسلمين عدول بعضهم علي بعض الا مجلود في حد لم يتب منه او معروف بشهاده زور او ظني.

واياک والضجر والتاذي في مجلس القضاء الذي اوجب اللّه فيه الاجر، ويحسن فيه الذخر لمن قضي بحق، واعلم ان الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا حرم حلالا او احل حراما، واجعل لمن ادعي شهودا غيبا امدا بينهما، فان احضرهم في قصاص او حد من حدود اللّه او حق من حقوق اللّه حتي تعرض ذلک علي ان شاء اللّه ولا يعقد في مجلس القضاء حتي تطعم).

الفقره الخامسه: ومن کتاب للامام علي (ع) الي شريح ايضا کتبه اليه، علي اثر بلوغه نبا شرائه دارا بثمانين دينارا، فاستدعاه، وقال له:

(بلغني انک ابتعت دارا بثمانين دينارا! فقال شريح: قد کان ذلک يا امير المومنين. قال: فنظر اليه نظر مغضب، ثم قال له:

يا شريح، اما انه سياتيک من لا ينظر في کتابک ولا يسالک الي قبرک خالصا، فانظر يا شريح لا تکون ابتعت هذه الدار من غير مالک، او نقدت الثمن غير حلالک، فاذا انت قد خسرت دار الدنيا ودار الاخره. اما انک لو اتيتني عند شرائک ما اشتريت لکتبت لک کتابا، علي هذه النسخه، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم من فوق).[8] .

ولنکتف بهذا القدر من النص لان ذکر بقيته يخرجنا عن موضوعنا، ويدخلنا في باب الاخلاقيات.









  1. محمد عبده في شرحه للنهج، ج 3ص 94،95سلف ذکره.
  2. ينظر في شرح هذا النص ابن ابي الحديد في شرحه للنهج، المجلد الاول، ص 94دار احياء التراث العربي.
  3. ابن قتيبه الدينوري، عيون الاخبار، المجلد الاول، ص 60مصر، 1963.
  4. شرح محمد عبده للنهج، ج 1ص 54و55.
  5. فروع الکافي، مخطوط عام 1080ه، وهو من مخطوطات خزانه کتبي.
  6. جاء في کتاب: (من لا يحضره الفقيه)، ج 3ص 8ط،5عام 1390ه في المعني نفسه، ولکن بهذه الکلمات: انظر الي اهل الشح والمطل والاضطهاد ومن يدفع حقوق الناس من اهل المدر واليسار.
  7. وفي روايه اخري: حتي لا يطمع العظماء في حيفک لهم ولا يياس الضعفاء من عدلک عليهم، ينظر: الشيخ ابو جعفر المحمودي، نهج السعاده في مستدرک نهج البلاغه، ج 2ص 74ط،1النجف.
  8. محمد عبده في شرح النهج، ج 3ص 4.