العمل القضائي عند الامام علي











العمل القضائي عند الامام علي



لا نقاش في ان القضاء ليس عملا نظريا، او مکتبيا، کالاعمال الاداريه او الخدميه في مجال الوظيفه العامه -بالتعبير القانوني المعاصر- انما هو قبل کل شي ء فن -کما سلفت الاشاره- ومناط هذا الفن هو العمل القضائي بالذات، وما الوظيفه القضائيه سوي احد اشکال الرقابه التي يتم من خلالها فحص البينات والدفوع المقدمه من الطرفين المتخاصمين وتدقيقها وموازنتها، علي النحو الذي يتمخض عنه اقرار المصلحه المدعاه -المتنافس عليها- او عدم اقرارها، ومن ثم فض المنازعات الناشئه عنها بين اطراف الدعوي بطريق فني.

فالقاضي عندما ترفع امامه الدعوي، باعتبارها وسيله، يسوغ للمدعي فيها طلب التحري عن الحق الذي يکتنفه التنازع او الغموض لغرض کشفه لا بد ان تکون صحيحه وواضحه[1] بغيه ربط ما يطرح من جزئيات بشانها في مجلسه للوقوف علي عائديه الحق المتنازع او کشف حقيقه وجوده ونوعه ثم اقرار ما تبين له من واقع علي نحو ملزم عن طريق الحکم الذي يصدره لحسم ذلک التنازع، وهذه هي المهمه الاساسيه للقاضي التي ينصب عليها مجمل العمل القضائي.

وبغيه الوصول الي الحکم الصائب السليم لا بد من امعان النظر وتفهم معطيات الجانب العملي للقضاء عند الامام علي (ع) وما يمکن استلهامه من يتائم سوابقه القضائيه واستحضار النقي منها، بوصفه دليلا ثابتا للقاضي الملتزم.

والحق ان قيمه الحلول العمليه التي قررها الامام علي بن ابي طالب (ع)، في جزئيات القضايا التي يرويها لنا تراثه الضخم بوصفها ملتقي عاما لرجال القضاء عبر العصور، حقيقه لا ريب فيها لانها -کما سيتبين لنا من خلال صفحات هذا الباب- طافحه بالابداع وغنيه بالدرر اليتيمه والدقه في تطبيقات العداله.

لهذا ليس من المنطق علي المتتبع غض الطرف عنها -مهما کان مشربه او ماکله- لا بل ان مجرد اطلاعه عليها سوف يفرض تاثيرها عليه، واذا ما تعمق فيها فسيجد الغرائب والعجائب من جواهر الامام القضائيه، وسيظفر بکنوز احجارها الکريمه رغم تباعد الشقه بين وقتها وبين الثقافات المتعاقبه عليها الي حد يمس الجوهريات[2] ورغم ما يلاقيه المتتبع من صعوبه في اعطاء الصوره الکامله او الاهتداء الي الطريق المعبد بشانها بشکل ابهي وادق واوضح، لما تتضمنه جواهرها وکنوزها الدفينه من بطون المراجع من عمق.

وقد ظلت مساله النظر في بعثها وسبر غورها ولم جواهرها وشذراتها من جديد، والتقصي والبحث عن حلقاتها المفقوده، ظلت من مستلزمات الانسانيه ومقومات سعادتها ووجودها الامثل لانها بنيت علي اساس ثابت رصين (قل نحن نزلنا الذکر وانا له لحافظون). لهذا سنحاول جهدنا، في هذا الباب، لتقديم المامه متواضعه في هذا الجانب فنتطرق الي موضوع الدعوي وتکييفها، ثم نعرج الي بحث ادله الاثبات عند الامام علي (ع) وناتي بعد ذلک الي ذکر لواحق في العمل القضائي ايام خلافته الراشده. وهذا ما تضمنته الفصول الاربعه التي يقوم عليها هذا الباب، وذلک في المنظور المعاصر.









  1. المحقق الحلي، شرائع الاسلام، ج 4ص 107.
  2. حيث سيجد ان جل اصول المرافعات في ساحات المحاکم الراهنه والمبادي ء العامه للقوانين الاصوليه والاجرائيه تستمد جذورها من تلک السوابق، من دون ان تکون من بنات الفکر القانوني او القضائي المعاصر کما هو شائع، ولا عجب في ذلک ما دام الرسول الکريم قد ضرب علي صدره لما بعثه الي اليمن قاضيا وقال (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه) وکان عليه السلام يقول: ما شککت بعدها في قضاء بين اثنين، راجع ابن ابي الحديد في شرحه للنهج، المجلد الخامس، ص 453طبعه 1983وقد تواتر ذکر هذه الروايه في جل المصادر التي تناولت قضاء الامام، کالتستري والمفيد والعبدون واضرابهم.