الصبر علي تكشف الامور











الصبر علي تکشف الامور



ويري الامام (ع) -بحق- وجوب ان يکون القاضي اصبر الناس (علي تکشف الامور)، لا بل عليه ان (لا يکتفي بادني فهم دون اقصاه)، ذلک لان مهمته -کما بينا- هي کشف الحقيقه واحقاق الحق، لا تقريره او انشاوه، فالدعوي المنظوره امامه ليست سوي وسيله للحصول علي الحق بعد کشفه من خلال البينات، وليست هي الحق بالذات،[1] وهي کاجراء لا يشترط لقبولها ثبوت الحق او وضوحه ابتداء، انما علي القاضي التحقق من ثبوته عبر مجريات المرافعه، لان الغايه الاساسيه من رفع الدعوي امامه هي الوصول الي حکم القضاء بتقرير وجود الحق المدعي به وعائديته من عدمهما.

وتحقيقا للحکم العادل الصحيح علي القاضي التعمق في فهم الدعوي وهضم ما يقوله اطرافها اثناء المرافعه، وان يرکز فکره علي ما يطرح من ادله ودفوع وان لا يکون (کالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)[2] ثم عليه ان يحلل الادله ويمحصها بروي کاشفه وفکر ثاقب مقرون بالتاني کي يهتدي الي الصواب.

ولنا في منهج الامام (ع) من خلال بعض قضاياه وسوابقه ما يوکد ذلک وبشکل لا لبس فيه، لا بل حتي عند توفر الدليل کان (ع) لا يتسرع بالاخذ بالدليل علي علاته من دون تحليل ومصابره في تدقيقه، فالاقرار مثلا لا يعتد به اذا کان مقترنا بالاکراه، کما سنري في المبحث الخاص به عند بحث ادله الاثبات. ولعل من المناسب ذکر احدي سوابق الامام القضائيه التي توکد منهجه في عدم التسرع في الحکم، تلک هي المتعلقه بقضيه الشاب الذي ضبط في حاله سکر، اذ لم يقم عليه الحد رغم ثبوت جريمه شربه المسکر، فقد تبين له بعد التحقيق ان شربه کان نتيجه عدم بلوغه خبر التحريم، وذلک من خلال ارساله رجلين من ثقاه المسلمين اخذا يطوفان بذلک الشاب في مجالس المهاجرين والانصار علهم يجدون من يشهد عليه في سماعه آيه التحريم، ولکنهما لم يجدا من شهد ضده، لهذا اخلي الامام علي (ع) سبيله.[3] .

ومساله وجوب ان لا يکتفي القاضي بادني فهم من دون اقصاه يدخل في نطاق مدلولها وجوب ان لا ياخذه الشرود في المدافعه، فشرود الذهن يبعد القاضي عما يجري في مجلسه، ويجعله غير منتبه الي الاقوال التي تدلي امامه، وان مثل هذا من شانه المساس بمجريات التحقيق القضائي الذي يجريه في الدعوي وبصحته، فتدوين الاقوال من قبل کاتب القاضي بشکلها المرسل -مثلا- لا يکفي لاخذ الصوره الحقيقيه لما تنم عليه تلک الاقوال من معني او مغزي، فلعل کلمه من هذا او اماره او اشاره من ذاک تظهر من الحقيقه بعض غوامضها، وقد تکشف عن امور ليست بالحسبان.

ولعل من الطريف ان نذکر ما رواه ابن الجوزي عن ابي العطوف قاضي حران عندما تقدم اليه رجلان، فقال احدهما: هذا ذبح ديکا لي فخذ لي بحقه، فاجابهما علي الفور ومن دون تامل: عليکما بصاحب الشرطه فهو الذي ينظر في الدماء. فقد ادرج هذا القاضي في قائمه الحمقي والمغفلين[4] وکان موفقا في هذا الادراج لان المذبوح ديک لا انسان، حيث ان جرائم الدم کانت تنظر عهد ذاک من قبل رجل الشرطه. فالقاضي اذن يجب ان لا يستعجل الراي، فالتمييز بين الحق والباطل قد يدق، احيانا، الي مستوي لا يمکن استيضاحه الا بعد جهد جهيد من الصبر والاناه في التحقيق.

ومن القضايا التي علقت في ذهني اثناء ممارستي لقضاء الحج[5] ان متهما شابا قد مثل امامي، فلفت نظري مظهره الخارجي وتقاطيع وجهه التي تنم علي الرزانه والبراءه والشک في ما اسند اليه من فعل نشل احد المواطنين -والنشل ابسط جرائم السرقات في القانون الوضعي- وکاد يعزز ذلک ما نسبه اليه محاميه من کونه طالبا متفوقا علي اقرانه، وهو في الصف السادس العلمي، کون التفوق العلمي قرينه تدل علي حصانه اخلاق صاحبها عاده، وعند ورود جواب مدرسته تبين لي انه راسب لسنتين متتاليتين وانه تارک الدراسه، ولولا هذه القرينه التي عززت شهاده الشاهد الواحد المتوفره في القضيه، وما لاحظته من وشم في ظهر ساعه احدي يديه التي تدل رسومه علي مظهر لا اخلاقي لکان قد افلت من يد العداله.









  1. لمزيد من التفصيل راجع، مثلا، الدکتور آدم وهيب النداوي في رسالته للدکتوراه، سلطه المحکمه المدنيه في تعديل نطاق الدعوي، ص 35بغداد79.
  2. سوره الانفال، آيه: 22.
  3. ان وددت الاطلاع علي تفاصيل الحادث في هذه القضيه، راجع: الشيخ المفيد في ارشاده، ص 117والساروي، الحق المبين، ص 17سبق ذکرهما.
  4. ابن الجوزي، اخبار الحمقي والمغفلين، ص 138سبق ذکره.
  5. ان محاکم الجنح تنظر في القضايا الجزائيه عن الجرائم التي لا تزيد عقوبتها عن الحبس في حده الاعلي البالغ خمس سنوات.