المقدمه











المقدمه



لا مراء في ان شخصيه الامام علي بن ابي طالب (ع) شخصيه فذه، لا بل انها معجزه من معجزات الاسلام، لما تملکه من عمق وثراء، في مختلف جوانب الحياه البشريه والابداع الحضاري والتاصيل العقائدي علي مر العصور.

واذا کان العلماء ورجال الفکر -علي اختلاف مللهم ونحلهم- قد افردوا لشخصيه الامام علي (ع) الخالده من الموسوعات والدراسات التي تناولت سيرته ودوره التاريخي في رفعه الاسلام واعلاء شان الامه وکشف العديد من جوانب عظمته واماطه اللثام عن بعض مناحي عبقريته الملهمه وما تحويه من کنوز ما تفخر بها البشريه، فان اهتمام الدارسين له انصب علي ابراز معالم عظمته، بوصفه خليفه متميزا واماما ثبتا وانسانا متکاملا، فتناولوا سيرته من هذه النقطه او تلک، وبحثوا في مناقبه ومواصفاته الانسانيه المتميزه وما تمخض عنها من البلاء الفذ في سبيل اعلاء کلمه الحق بفعل العنايه الالهيه التي رفدت به امه العرب والمسلمين کافه، للذود عن حياضها، وهو ابن عم الرسول الامين (ص) وباب مدينه علمه المتين.

واذا کانت حقيقه شخصيه الامام علي (ع) تکمن في فهمه لحقيقه الاسلام ونظرته الثاقبه التي اخترقت اعماقه فتغلغل الايمان في قلبه الطاهر وعجن بلحمه ودمه، فاضحي رجل الاسلام المخلد الذي لا تاخذه في الحق لومه لائم او مکابر، وهو الصحابي الوحيد الذي قال قولته المشهوره: (اسالوني قبل ان تفقدوني).[1] ومن ثقته بنفسه ان طلحه والزبير لما عتبا عليه لترکه مشورتهما قال: (نظرت الي کتاب اللّه وما وضع لنا وامرنا بالحکم فيه فاتبعته وما استن النبي (ص) فاقتديته فلم احتج في ذلک الي رايکما ولا راي غيرکما ولا وقع حکم جهلته).[2] وبحکم علاقته الوثيقه ببيت الرساله المحمديه وما حباه الباري تعالي من الهام ومکانه نجده، رضوان اللّه عليه، قد انفرد عن غيره بخصائص هو ابن عذرتها، ولا غرابه في ذلک ما دام الرسول الکريم قد مثله بنفسه، وقال في حديثه الشريف:

(ما من نبي الا وله نظير في امته وعلي نظيري)[3] فکان من الجوانب المتميزه في حياته الطاهره عدله القضائي ودقه احکامه في القضايا التي کانت تعرض عليه، فکان سباقا الي احتواء مشکلات القضاء وعويصاته ومستحدثات مسائله وما يمکن ان يستجد من اموره وموضوعاته. من هنا تبرز عظمته، بوصفه قاضيا فريدا، بعد ان عرف ان احکام الشريعه الغراء تغطي کل احداث الناس وخصوماتهم- علي تعاقب الدهور- وحيث ان النبي العربي الامين محمدبن عبداللّه (ص) قد وصف الامام علي بن ابي طالب (ع) بانه (اقضي الامه)[4] وحيث ان عمر بن الخطاب (رض) کان يتعوذ من المعضله التي ليس فيها ابو الحسن[5] فانه الوحيد الذي لم يختبره الرسول المعظم حين ولاه قضاء اليمن[6] رغم انه کان وقتها شابا يافعا، ثم انه کان المستشار الفقهي والقضائي للخلفاء الذين من قبله ومرجع الصحابه الکرام في عويصات ما تعترضهم من مسائل،[7] الامر الذي يدلنا علي تمتعه بالهام رباني وخصوصيه قضائيه استحق فيها ان يصفه نبي الامه بانه اقضي الامه.

فما هو اذن منهجه في القضاء؟ وکيف کان يقضي بين الناس؟

وما هي طريقته وحلوله العمليه في جزئيات المسائل والقضايا التي کانت تعرض عليه؟

ان استعراض اقواله ومعالجاته لامور القضاء، علاوه علي احکامه في جزئيات المسائل التي ورثناها عنه، يمثل اهم الوثائق التي تمدنا بالاسس الرئيسه لمنهجه في القضاء. اما ما نظره فکره الملهم في ما ينبغي ان يکون عليه القاضي الکف ء واصول الترافع في مجلس القضاء ومستلزماته فيحدد بجلاء معالم ذلک النهج الذي تنم خطوطه العريضه -کما سيتبين من خلال صفحات هذا الجهد المتواضع- عن عبقريه فذه فعلا.

وقد کان هذا الجانب المتميز، من جمله ما انفردت به شخصيه امير المومنين (ع) التي لم يسبر غورها، ويتعمق في سرها، احد من الباحثين المحدثين، ثم ان ما تبقي من آثار السلف الصالح الذين تناولوا قضاءه قد غلب عليه طابع السرد الروائي لقضاياه والنقل القصصي لاحکامه، ما يصل بها احيانا الي الاساطير من دون تمحيص او تحقيق او تدقيق،[8] او فهم معمق للدلالات الفکريه وما تمخض عنها من مسائل ونتائج هامه في مجال فقه القضاء وفنه، ناهيک عن اصالته الابداعيه في استنباط الاحکام، فلکل حکم صدر عنه في جزئيات القضايا فلسفه وحکمه، وتستخلص منها قاعده وتستلهم منها فائده وسابقه قضائيه[9] عميقه المضمون، لما تحويه من مغزي فقهي رحب الثراء في مجال تطبيقات العداله وحسن ادائها.

لهذا جميعه، تناولت هذا الجانب الحيوي من هذه الشخصيه الخالده، آخذا من الاسلوب المبسط في التعبير مسلکا في البحث والتحليل، مبتدئا بايراد بعض النصوص النثريه من بلاغته في المجال المذکور الذي سيکون محلا للباب التمهيدي لهذا الجهد المتواضع. ثم اتيت الي بحث منهجه في القضاء نظريا وعمليا، وذلک في بابين رئيسيين: الاول عرجت فيه الي الاطار الفکري للقضاء عند الامام علي، والثاني جنحت فيه الي بحث الاطار التطبيقي لعمله القضائي، وسانهي هذا الجهد بخاتمه اجماليه لمحصله ما تناولناه.

وعسي ان اکون قد وفقت في العرض والطرح والتحليل، والحمد للّه الذي هدانا لهذا، وما کنا لنهتدي لولا ان هدانا اللّه، وهو حسبنا ونعم الوکيل ومنه السداد.









  1. راجع: ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغه، المجلد الرابع، ص 138تحقيق لجنه احياء الذخائر، بيروت، 83.
  2. الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغه، ج 2ص 184نشر موسسه الاعلمي، بيروت، بلا تاريخ.
  3. الحافظ محب الدين الطبرسي، ذخائر العقبي، ص 74بغداد، 1984.
  4. ينظر، مثلا، مناقب الخوارزمي، ص 39النجف،1965والشبلنجي، نور الابصار، ص 79بغداد،1984والطبري في ذخائره، ص 93والدکتوره سعاد ماهر، مشهد الامام علي، ص 39القاهره، 1969.
  5. السيوط ي، تاريخ الخلفاء، ص 171بغداد،1976وابن حجر، الصواعق المحرقه، ص 127مصر، 1965.
  6. الماوردي، الاحکام السلطانيه، ص 67مصر،1966والکازروني، مختصر التاريخ، ص 56بغداد، 1970 تحقيق الدکتور مصطفي جواد.
  7. الشيخ المفيد، الارشاد، ص 117النجف،72والحافظ الطبري، ص 89سلف ذکره.
  8. حيث نجد الکثير من الغث قد دس في قضائه، بيد خفيه، في محاوله للنيل من مکانته، عليه السلام، کقضيه شم الشاب لضلع من اضلاع ميت واعتبار انبعاث الدم من انفه دليلا علي ابوته له فکما وردت هذه القضيه في الکوکب الدري، ج 2ص 40ف او قضيه حساب اضلاع الخنثي لمعرفه ما اذا کان يستحق ميراث الرجل عند عدم التساوي او ميراث الانثي عند التساوي التي اوردتها العديد من المصادر التي تطرقت الي قضاء الامام فکمناقب الخوارزمي، ص 55ف فمثل هذه القضايا لا يقبلها العقل ولا المنطق وقد ذکر المحقق الحلي ان القضيه الاخيره، مثلا، لم يتحقق الاجماع بشانها، لا بل ان روايتها ضعيفه اصلا، راجع: مولفه شرائع الاسلام، ج 4ص 145النجف، 1969.
  9. السوابق القضائيه هي تلک القضايا التي تضم احکامها مبادي ء رصينه يهتدي بها رجال العلم والقضاء في القضايا المماثله للدعوي الجديده، وتعد مثل هذه السوابق في بريطانيا ذات قوه قانونيه ملزمه للمحاکم التي اصدرتها والمحاکم التي هي بدرجه ادني في قابل الايام ولا تصح مخالفتها.