احتجاجه علي أبي بكر











احتجاجه علي أبي بکر



ولنختم هذا الکتاب بما دل من البراهين الساطعة، والحجج القاطعة، التي ما زالت شاهدة إلي يوم الناس هذا، علي أفضليّة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وعظيم ما تفرّد به ممّا منّ الله عليه دون غيره من أجلاء القرابة والصحابة من جلائل المکرمات، والمفاخر العاليات، وأقرَّبها الخليفة الاوّل لمّا احتجّ بها عليه في أمر الخلافة.

وذلک کما رواه الشيخ الاقدم الصدوق، غرّة جبهة الزمان، إنسان العين وعين الانسان، المتفاني في ترويج الحقّ وإذاعته، ونشر حقائق الدين وإعلاء کلمته، صاحب التصانيف التي طبق ذيوع صيتها الافاق، ولا يعتريها من مرور الشهور محاق، أحد الاعلام الذين تناقلوا الخبر عن النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) والائمّة الاثني عشر، ونوّروا مناهج الاقطار بأنوار المآثر والاثار، البحر المتلاطم الزخّار، شيخ مشايخ الحديث والاخبار، أمّا الحديث فهو إمام درايته، وأمّا الفقه فهو حامل رايته، وأمّا الکلام فهو ابن بَجدته، مولانا الاجل أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمّي في کتابه الخصال [ص548].

قال: حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد الحسني، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن حفص الخثعمي، قال: حدّثنا الحسن بن عبد الواحد، قال: حدّثني أحمد بن عبد الله التغلبي، قال: حدّثني أحمد بن عبد الحميد، قال: حدّثني حفص بن منصور العطّار، قال: حدّثنا أبو سعيد الورّاق، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه(عليهم السلام)، قال: لمّا کان من أمر أبي بکر وبيعة الناس له، وفعلهم بعلي بن أبي طالب ما کان، لم يزل أبو بکر يُظهر له الانبساط، ويري منه انقباضاً، فکبر ذلک علي أبي بکر، فأحبّ لقاءه، واستخراج ما عنده والمعذرة إليه، لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إيّاه أمر الاُمة. وقلّة رغبته في ذلک وزهده فيه، أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة، وقال له: يا أبا الحسن ما کان هذا الامر مواطأة منّي، ولا رغبة فيما وقعتُ فيه، ولا حرصاً عليه، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الاُمّة، ولا قوّة لي لمال ولا کثرةِ العشيرة، ولا ابتزاز له دون غيري، فمالک تضمر عليّ ما لم أستحقه منک وتظهر لي الکراهة فيما صِرتُ إليه وتنظر إليّ بعين السآمة منّي؟!

قال: فقال علي(عليه السلام): فما حملک عليه إذا لم ترغب فيه، ولا حرصت عليه ولا وثقت بنفسک في القيام به، وبما يُحتاج منک فيه؟

فقال أبو بکر: حديث سمعته من رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): انّ الله لا يجمع اُمّتي علي ضلال، فلمّا رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) وأحَلت أن يکون اجتماعهم علي خلاف الهدي، وأعطيتهم قَود الاجابة، ولو علمت أنّ أحداً يتخلّف لا متنعت.

قال: فقال علي(عليه السلام): أمّا ما ذکرت من حديث النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) «انّ الله لا يجمع أمّتي علي ضلال» أفکنت من الاُمّة أو لم أکن؟ قال: بلي، قال علي(عليه السلام): وکذلک العصابة الممتنعة عليک من سلمان، وعمّار، وأبي ذرّ، والمقداد، وابن عبادة، ومن معه من الانصار؟ قال: کلّ من الاُمّة، فقال علي(عليه السلام): فکيف تحتجّ بحديث النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم)وأمثال هؤلاء تخلّفوا عنک، وليس للاُمّة فيهم طعن، ولا في صحبة الرسول(صلي الله عليه وآله وسلم)ونصيحته منهم تقصير.

قال أبو بکر: ما علمت بتخلّفهم إلاّ بعد إبرام الامر، وخفت إن دفعت عنّي الامر أن يتفاقم إلي أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين، وکان ممارستکم إليّ إن أجبتم أهون مؤونة علي الدين، وابقي له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعوا کفّاراً، وعلمت أنـّک لست بدوني في الابقاء عليهم وعلي أديانهم.

قال علي(عليه السلام): أجل، ولکن أخبرني عن الذي يستحقّ هذا الامر بما يستحقّه؟ فقال أبو بکر: بالنصيحة والوفاء، ورفع المداهنة، والمحاباة، وحسن السيرة، وإظهار العدل، والعلم بالکتاب والسنّة، وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا، وقلّة الرغبة فيها، وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد، ثمّ سکت.

فقال علي(عليه السلام): أنشدک بالله يا ابا بکر، أفي نفسک تجد هذه الخصال أم فيّ؟ قال: بل فيک يا أبا الحسن. قال علي(عليه السلام): أنشدک بالله، أنا المجيب لرسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)قبل ذُکران المسلمين أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا الاذان لاهل الموسم لجميع الاُمّة بسورة براءة أم أنت؟ قال: بل أنت، قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا وقيت رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) بنفسي يوم الغار أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): أنشدک بالله ألي الولاية من الله مع ولاية رسول الله في آية زکاة الخاتم أم لک؟ قال: بل لک. قال(عليه السلام): أنشدک بالله، أنا المولي لک ولکلّ مسلم بحديث النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): أنشدک بالله، ألي الوزارة من رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) والمثل من هارون من موسي أم لک؟ قال: بل لک.

قال(عليه السلام): أنشدک بالله، أبي برز رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيتي وولدي في مباهلة المشرکين من النصاري أم بک وبأهلک وولدک؟ قال: بکم. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله ألي ولاهلي وولدي آية التطهير من الرجس أم لک ولاهل بيتک؟ قال: بل لک ولاهل بيتک. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا صاحب دعوة رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وأهلي وولدي يوم الکساء «اللهم هؤلاء أهلي إليک لا إلي النار» أم أنت؟ قال: بل أنت وأهلک وولدک.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنا صاحب الاية (يوفون بالنذر ويخافون يوماً کان شرّه مستطيراً)[الدهر: 8] أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الفتي الذي نودي في السماء «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتي إلاّ علي»؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الذي ردّت له الشمس لوقت صلاته فصلاّها، ثمّ توارت أم أنا؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الذي حباک رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): برايته يوم خيبر ففتح الله له أم أنا؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): أنشدک بالله، أنت الذي نفّست عن رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) کربته وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ودّ أم أنا؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنت الذي ائتمنک رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) علي رسالته إلي الجنّ فأجابت أم أنا؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنت الذي طهّرک رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) من السفاح من آدم إلي أبيک بقوله(صلي الله عليه وآله وسلم) «أنا وأنت من نکاح لا من سفاح من آدم إلي عبد المطلب» أم أنا؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا الذي اختارني رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وزوّجني ابنته فاطمة، وقال: الله زوّجک، أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام) فأنشدک بالله، أنا والد الحسن والحسين ريحانتيه للذين قال فيهما: «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة وأبوهما خير منهما» أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أخوک المزيّن بجناحين في الجنّة ليطير بهما مع الملائکة أم أخي؟ قال: بل أخوک. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنا ضمنت دين رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وناديت في الموسم بإنجاز موعده أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، انا الذي دعاه رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) لطير عنده يريد أکله فقال: «اللهم ائتني بأحبّ خلقک إليک بعدي» أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا الذي بشّرني رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) بقتال الناکثين والقاسطين والمارقين علي تأويل القرآن أم أنت؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنا الذي شهدت آخر کلام رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وولّيت غسله ودفنه أم أنت؟ قال: بل أنت، قال(عليه السلام): فأنشدک بالله الذي دلّ رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) بعلم القضاء بقوله: «علي أقضاکم» أم أنت؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنا الذي أمر رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) أصحابه بالسلام عليه بالامرة في حياته أم أنت؟ قال: بل أنت؟ قال: فأنشدک بالله أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) أم أنا؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الذي حباک الله عزّوجلّ بدينار عند حاجته وباعک جبرئيل وأضفت محمّداً(صلي الله عليه وآله وسلم)وأطعمت ولده؟ قال: فبکي أبو بکر، وقال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنت الذي حملک رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) علي کتفيه في طرح صنم الکعبة وکسره حتّي لو شاء أن ينال اُفق السماء لنالها أم أنا؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الذي قال له رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): أنت صاحب لوائي في الدنيا والاخرة أم أنا؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فانشدک بالله، أنت الذي أمر رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) بفتح بابه في مسجده حين أمر بسدّ جميع أبواب أصحابه وأهل بيته وأحلّ له فيه ما أحلّه الله له أم أنا؟ قال: بل أنت.

قال(عليه السلام): فأنشدک بالله أنت الذي قدم بين يدي نجوي رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)صدقة فناجاه أم أنا إذ عاتب الله قوماً، فقال: (أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواکم صدقات)[المجادلة: 13]؟ قال: بل أنت. قال(عليه السلام): فأنشدک بالله، أنت الذي قال فيه رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام): «زوّجتک أوّل الناس إيماناً وأرجحهم إسلاماً» في کلام له أم أنا؟ قال: بل أنت.

فلم يزل(عليه السلام) يَعدّ عليه مناقبه التي جعل الله عزّوجلّ له دونه ودون غيره، ويقول له أبو بکر: بل أنت، ويقول: فبهذا وشبهه يستحقّ القيام باُمور اُمّة محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم)، فقال له علي(عليه السلام): فمن الذي غرّک عن الله وعن رسوله وعن دينه، وأنت خلو ممّا يحتاج إليه أهل دينه؟

قال: فبکي أبو بکر، وقال: صدقت يا أبا الحسن أَنظِرني يومي هذا، فاُدبّر ما أنا فيه وما سمعتُه منک. قال: فقال له علي(عليه السلام): لک ذلک يا أبا بکر.

فرجع من عنده وخلا بنفسه يومه، ولم يأذن لاحد إلي الليل، وعمر يتردّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي(عليه السلام). فبات في ليلته، فرأي رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) في منامه متمثلاً له في مجلسه، فقام إليه أبو بکر ليسلم عليه، فولّي وجهه، فقال أبو بکر: يا رسول الله هل أمرت بأمر فلم أفعل؟ فقال رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): أردّ السلام عليک وقد عاديت الله ورسوله؟ ردّ الحقّ إلي أهله، قال: فقلت: من أهله؟ قال(صلي الله عليه وآله وسلم): من عاتبک عليه وهو علي. قال: فقد رددت عليه يا رسول الله بأمرک.

قال: فأصبح وبکي وقال لعلي(عليه السلام): ابسط يدک، فبايعه وسلم إليه الامر، وقال له: أخرج إلي مسجد رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) واخبر الناس بما رأيتُ في ليلتي وما جري بيني وبينک، فاُخرجُ نفسي من هذا الامر واُسلّم عليک بالامرة. قال: فقال له علي(عليه السلام): نعم.

فخرج من عنده متغيراً لونه، فصادفه عمر وهو في طلبه، فقال له: ما حالک يا خليفة رسول الله؟ فأخبره بما کان منه وما رأي وما جري بينه وبين علي(عليه السلام)، فقال له عمر: أنشدک بالله يا خليفة رسول الله، أن تغترّ بسحر بني هاشم، فليس هذا بأوّل سحر منهم، فما زال به حتّي ردّه عن رأيه، وصرفه عن عزمه، ورغّبه فيما هو فيه، وأمره بالثبات عليه والقيام به.

قال: فأتي علي(عليه السلام) للميعاد، فلم يرَ فيه منهم أحداً، فأحسّ بالشرّ منهم، فقعد إلي قبر رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)، فمرّ به عمر، فقال: يا علي دون ما تروم خرط القتاد، فعلم بالامر وقام ورجع إلي بيته. انتهي.

القتاد: شجر له شوک. وخرط القتاد: انتزاع قشر أو شوکة باليد من أعلاه إلي أسفله.