استنابة الرسول له في عدّة مواضع











استنابة الرسول له في عدّة مواضع



وقد استناب (صلي الله عليه وآله وسلم) مولانا عليّا (عليه السلام) في غير مکان، وفي عدّة مواطن بعد أن ولّي غيره، وعاد بخفيّ حنين وآب خائباً، کما نقل إلينا عن کبار المؤرّخين في تواريخهم ومصنّفاتهم.

منها: ما ذکره الحافظ الشهير بابن شهرآشوب في کتابه النفيس مناقب آل أبي طالب [1: 393 ط. النجف وفي طبعة ايران 2: 129] وغيره من أهل السير: أنّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) بعث خالداً إلي اليمن يدعوهم إلي الاسلام، فيهم البرّاء بن عازب، فأقام ستّة أشهر فلم يجبه أحد، فساء ذلک النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأمره أن يعزل خالداً، فلمّا بلغ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) القوم صلّي بهم الفجر، ثمّ قرأ علي القوم کتاب رسول الله، فأسلم همدان کلّها في يوم واحد، وتبايع أهل اليمن علي الاسلام، فلمّا بلغ ذلک رسول الله خر لله ساجداً، وقال: السلام علي همدان.

ومن أبيات أمير المؤمنين في يوم صفين:


ولو أن يوماً کنت بوّاب جنّة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام


واستنابه علي اليمن أيضاً لمّا أنفذه قاضياً علي ما أطبق عليه الوليّ والعدوّ علي قوله (عليه السلام) ، وضرب (صلي الله عليه وآله وسلم) علي صدره، وقال: اللهمّ سدّده ولقّنه فصل الخطاب، قال (عليه السلام): فما شککت في قضاء بين اثنين بعد ذلک اليوم.

رواه أحمد بن حنبل، وأبو يعلي في مسنديهما، وابن بطّة في الابانة من أربعة طرق.

واستنابه حين أنفذه إلي المدينة لمهمّ شرعيّ، کما ذکره أحمد بن حنبل في المسند والفضائل، وأبو يعلي في مسنده، وابن بطّة في الابانة، والزمخشري في الفائق واللفظ لاحمد، قال علي (عليه السلام): کنّا مع رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) في جنازة، فقال: مَنْ يأتي المدينة فلا يدع قبراً إلاّ سوّاه، ولا صورة إلا لطخها، ولا صنماً إلاّ کسره، فقام رجل فقال: أنا، ثمّ هاب أهل المدينة فجلس، فانطلقت ثمّ جئت، فقلت: يا رسول الله، لم أدَع في المدينة قبراً إلاّ سوّيته، ولا صورة إلاّ لطختها، ولا وثناً إلاّ کسرته، قال: فقال (صلي الله عليه وآله وسلم): من عاد فصنع شيئاً من ذلک، فقد کفر بما أنزل الله علي محمد الخبر.

واستنابه في ذبح باقي إبله فيما زاد علي ثلاثة وستّين، کما رواه اسماعيل البخاري، وأبو داود السجستاني، والبلاذري، وأبو يعلي الموصلي، وأحمد بن حنبل، وأبو القاسم الاصفهاني في الترغيب، واللفظ له: عن جابر، وابن عبّاس، قال: أهدي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مئة بدنة، فقدم علي (عليه السلام) من المدينة، فأشرکه في بدنه بالثلث، فنحر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ستّاً وستّين بدنة، وامر عليّاً فنحر أربعاً وثلاثين، وأمره النبيّ (عليهم السلام) من کلّ جزور ببضعة، فطبخت، فأکلا من اللحم، وحسيا من المرق.

قال الحميري:


شريک رسول الله في البُدُن التي
حداها هدايا عام حجّ فودّعا


فلم يعدأن وافي الهدي محلّه
دعا بالهدايا مشعرات فصرّعا


بکعبة ستّاً بعد ستّين بکرة
هدايا له قد ساقها مئة معا


وفاز علي الخير منه بأنيق
ثلاثين بل زادت علي ذاک أربعا


فنحّرها ثمّ اجتذي من جميعها
جذاً ثمّ ألقي ما اجتذي منه أجمعا


بقدر فأغلاها فلمّا أتت أتي
بها قد تهوّي لحمها وتميّعا


فقال له کلْ وأحس منها ومثل ما
تراني باذن الله أصنع فاصنعا


ولم يطعما خلقاً من الناس بضعة
ولا حسوة من ذاک حتي تضلّعا


واستنابه في التضحّي، کما رواه الحاکم بن البيع في معرفة علوم الحديث، قال: حدّثنا أبو نصر سهل الفقيه، عن صالح بن محمّد بن الحبيب، عن علي بن حکيم، عن شريک، عن ابي الحسناء، عن الحکم بن عتيبة، عن رزين بن حنيس، قال: کان علي يضحّي بکبشين: بکبش عن النبي، وبکبش عن نفسه، وقال: کان أمرني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أن اضحّي عنه، فأنا أضحّي عنه أبداً.

ورواه أحمد في الفضائل.

واستنابه أيضاً في اصلاح ما أفسده خالد، کما رواه البخاري: انّ النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) بعث خالداً في سريّة، فأغار علي حيّ أبي زاهر الاسدي، وفي رواية أيضاً في بني جذيمة، وفي رواية الطبري: انّ خالداً أمر بکتفهم، ثمّ عرضهم علي السيف، فقتل منهم من قتل، فأتوا بالکتاب الذي أمر رسول الله أماناً له ولقومه إلي النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) ، قالوا جميعاً: إنّ النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: اللهمّ انّي أبرأ اليک ممّا صنع خالد. وفي رواية الخدري، قال: اللهمّ اني أبرأ من خالد. ثلاثاً.

ثمّ قال: أمّا متاعکم، فقد ذهب فاقتسمه المسلمون، ولکنّي أردّ إليکم مثل متاعکم، ثمّ إنّه قدم علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ثلاث رزم من متاع اليمن، فقال (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي فاقض ذمّة الله وذمّة رسوله، ودفع (صلي الله عليه وآله وسلم) إليه (عليه السلام) الرزم الثلاث، فأمر علي بنسخة ما اُصيب لهم، فکتبوا، فقال: خذوا هذه الرزمة فقوّموها بما اُصيب لکم، فقالوا: سبحان الله هذا أکبر مما اُصيب لنا، فقال (عليه السلام): خذوا هذه الثانيه فاکسوا عيالکم وخدمکم ليفرحوا بقدر ما حزنوا، وخذوا هذه الثالثه بما علمتم وما لم تعلموا، لترضوا عن رسول الله، فلمّا قدم علي علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أخبره بالذي کان منه، فضحک رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حتّي بدت نواجذه، وقال: أدّي الله عن ذمّتک کما أدّيت عن ذمّتي.

وقد استنابه أيضاً في ردّ الودائع لمّا هاجر إلي المدينة، استخلف (صلي الله عليه وآله وسلم) عليّاً (عليه السلام) في اهله وماله، فأمره أن يؤدّي عنه کلّ دين وکلّ وديعة، وأوصي إليه بقضاء ديونه.

وروي الطبري باسناد له عن عباد، عن علي أنّه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم): من يؤدّي عنّي ديني ويقضي عداتي ويکون معي في الجنّة؟ قلت: أنا يا رسول الله.

وروي الديلمي في فردوس الاخبار [3: 88] قال سلمان: قال (صلي الله عليه وآله وسلم): علي بن أبي طالب ينجز عداتي، ويقضي ديني.

وروي أحمد بن حنبل في الفضائل عن آدم السلولي، وحبشي بن جنادة السلولي، قال النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم): علي منّي وأنا منه، ولا يقضي عنّي ديني إلاّ أنا أو علي.

قال ابن شهرآشوب: وقوله «يقضي ديني وينجز وعدي» وقوله «أنت قاضي عنّي ديني» في روايات کثيرة.

وروت العامّة عن حبشي بن جنادة أنّه أتي رجل أبا بکر، فقال: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وعدني أن يحثو لي ثلاث حثيّات من تمر، فقال: يا علي فاحثها له، فعدّها أبو بکر فوجد في کلّ حثية ستّين تمرة، فقال: صدق رسول الله، سمعته يقول: يا أبا بکر کفّي وکفّ علي في العدد سواء، ودين النبيّ انّما کان عداته وهي ثمانون ألف درهم فأدّاها.

قال الحميري:


وأدّيت عنه کلّ عهد وذمّة
وقد کان فيها واثقاً بوفائکا


فقلت له أقضي ديونک کلّها
وأقضي بانجاز جميع عداتکا


ثمانين ألفاً أو تزيد قضيتها
فأبرأته منها بحسن قضائکا


وله أيضاً:


أدّي ثمانين ألفاً عنه کاملة
لابل يزيد فلم يغرم وقد غنما


يدعو إليها ولا يدعو ببيّنة
لا بل يصدّق فيها زعم من زعما


حتّي يخلّصه منهابذمّته
إنّ الوصيّ الذي لا يخفر الذمما


وله أيضاً:


قضيت ديونه عنه فکانت
ديون محمّد ليست بغرم


ثمانين ألفاً باع فيها تلاده
موقّرة أرباتها لم تهضم


فما زال يقضي دينه وعداته
ويدعو إليها قائماً کلّ موسم


يقول لاهل الدين أهلاً ومرحباً
مقالة لا منّ ولا متجهّم


وينشدها حتّي يخلّص ذمّة
ببذل عطايا ذي ندي متقسّم


قال ابن شهرآشوب في مناقبه [1: 397 وفي طبعة 2: 133] وممّا قضي عنه الدين دين الله الذي هو أعظم، وذلک ما کان افترضه الله عليه، فقبض صلوات الله عليه وآله قبل أن يقضيه، وأوصي عليّاً بقضائه عنه، وذلک قول الله تعالي (يا أيّها النبيّ جاهد الکفّار والمنافقين) [التحريم: 9] فجاهد الکفّار في حياته وأمر عليّاً بجهاد المنافقين بعد وفاته، فجاهد (عليه السلام) الناکثين والقاسطين والمارقين، وقضي بذلک دين رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) الذي کان لربّه عليه.

وأنّه جعل طلاق نسائه (صلي الله عليه وآله وسلم) إليه (عليه السلام) ، روي ذلک أبو الدرّ المرادي، وصالح مولي التومة، عن عائشة، انّ النبيّ جعل طلاق نسائه إلي علي (عليه السلام).

وعن الاصبغ بن نباته، قال: بعث علي (عليه السلام) يوم الجمل إلي عائشة، وقال: ارجعي وإلاّ تکلّمت بکلام تبرئين من الله ورسوله.

وقال أمير المؤمنين للحسن: إذهب الي فلانة ـ يعني عائشة ـ فقل لها: قال لک أمير المؤمنين: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لئن لم ترحلي الساعة لابعثن إليک بما تعلمين، فلمّا أخبرها الحسن بما قال أمير المؤمنين قامت، ثمّ قالت: رَحّلوني، فقالت لها امرأة من المَهالِبة: أتاک ابن عبّاس شيخ بني هاشم حاورته، وخرج من عندک مغضباً، وأتاک غلام فأقلعت، قالت عائشة: إنّ هذا الغلام ابن رسول الله، فمن أراد أن ينظر إلي مقلتي رسول الله، فلينظر إلي هذا الغلام، وقد بعث إليّ بما علمت، قالت المرأة لعائشة: فأسألک بحقّ رسول الله عليک إلاّ أخبرتنا بالذي بعث إليک، قالت عائشة: إن رسول الله جعل طلاق نسائه بيد علي، فمن طلّقها في الدنيا بانت منه في الاخرة.

وفي رواية قالت عائشة: کان النبيّ يقسّم نفلاً في أصحابه، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً، وألححنا عليه في ذلک، فلامنا علي، فقال: حسبکنّ ما أضجرتنّ رسول الله، فتجهّمنا عليه، فغضب رسول الله ممّا استقبلنا به عليّاً، ثمّ قال (صلي الله عليه وآله وسلم): يا علي انّي قد جعلت طلاقهنّ إليک، فمن طلّقتها منهنّ فهي بائنة، فلم يوقّت النبيّ في ذلک وقتاً في حياة ولا موت، فهي تلک الکلمة، فأخاف أن اَبين من رسول الله.

واستنابه في مبيته ليلة الغار علي فراشه.

واستنابه في نقل الحرم إلي المدينة بعد ثلاثة أيّام.

واستنابه في قتل الصناديد من قريش، وولاّه عليهم عند هزيمتهم.

واستنابه في خاصة أمره وحفظ سرّه، مثل حديث مارية لما قرفوها، وولاّه الخروج إلي بني زهرة.

واستنابه علي المدينة لمّا خرج إلي تبوک، وولاه حين بعثه إلي فدک، وولاه يوم احد في أخذ الرايه، وکان صاحب رايته دونهم، وولاّه علي نفسه (صلي الله عليه وآله وسلم) عند وفاته وعلي غسله وتکفينه والصلاة عليه ودفنه.

وقد روي عنه (عليه السلام): إنّا أهل بيت النبوّة والرسالة والامامة، وانّه لا يجوز أن يقبلنا عند ولادتنا القوابل، وانّ الامام لا يتولي ولادته وتغميضه وغسله ودفنه إلاّ إمام مثله، فتولّي ولادته (عليه السلام) رسول الله، وتولّي وفاة رسول الله علي، وتولّي أمير المؤمنين الحسن والحسين، وتولّيا وفاته (عليه السلام) ، ووصّي إليه أمر الاُمّة.

واستنابه يـوم الفتـح في أمر عظيم، فإنّه (صلي الله عليه وآله وسلم) وقف وصعد علي علي کتفيه صلوات الله عليه وعلي آله، کمّا قد ذکرنا ذلک في کتابنا شواهد التنزيل مطوّلاً في المبحث الحادي والسبعين. راجع: المناقب لابن شهرآشوب [2: 126 ـ 135 ط. ايران].