كونه سبباً لاسلام جمع من أحبار اليهود











کونه سبباً لاسلام جمع من أحبار اليهود



قد ذکرنا أيّها القارئ الکريم فيما مضي أنـّه کم من يهودي أسلم بسببه(عليه السلام)، فإليکم ما اقتطفناه من عدّة من کتب أعلام المؤرّخين وجهابذة العلماء المصنّفين مما دلّ علي سعة علمه(عليه السلام) في دقائق العلوم وخفايا الاُمور بما لا يدانيه أحد فضلاً عن أن يقارنه، واعتراف جمع من أعدي أعداء الاسلام والمسلمين من أحبار اليهود وإقرارهم أيضاً بأولويّة علي(عليه السلام) بالخلافة، وأحقيّته بالقيام في مقام النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم)من بعده، دون غيره من القرابة والصحابة، کما شهد بذلک أيضاً کتابهم المقدس وهو التوراة.

ذکر المجاهد الکبير والشيخ الجليل عبد الحسين أحمد الاميني في کتابه القيّم الغدير 6: 148 نقلاً عن الثعلبي المتوفي سنة (427) في کتابه العرائس ص413 ـ 419 الطبعة الرابعة دار الرائد العربي بيروت.

لمّا ولي أمير المؤمنين عمر الخلافة، أتاه قوم من أحبار اليهود، فقالوا: يا عمر، أنت وليّ الامر بعد محمّد وصاحبه، وإنّا نريد أن نسألک عن خصال، إن أخبرتنا بها علمنا أنّ الاسلام حقّ وأنّ محمّداً کان نبياً، وإن لم تخبرنا علمنا أنّ الاسلام باطل وأنّ محمّداً لم يکن نبيّاً فقال: سلوا عمّا بدا لکم.

قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات ما هي؟ وأخبرنا عن مفاتيح السماوات ما هي؟ وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ما هو؟ وأخبرنا عمّن أنذر قومه لا هو من الجنّ ولا هو من الانس؟ وأخبرنا عن خمسة أشياء مشوا علي وجه الارض ولم يخلقوا في الارحام؟ وأخبرنا ما يقول الدرّاج في صياحه؟ وما يقول الديک في صراخه؟ وما يقول الفرس في صهيله؟ وما يقول الضفدع في نقيقه؟ وما يقول الحمار في نهيقه؟ وما يقول القنبر في صفيره؟

قال: فنکس عمر رأسه في الارض، ثمّ قال: لا عيب بعمر إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن يسأل عمّا لا يعلم، فوثبت اليهود، وقالوا: نشهد أنّ محمّداً لم يکن نبيّاً، وأنّ الاسلام باطل.

فوثب سلمان الفارسي، وقال لليهود: قفوا قليلاً، ثمّ توجّه نحو علي بن أبي طالب کرّم الله وجهه حتّي دخل عليه، فقال: يا أبا الحسن، أغث الاسلام، فقال: وما ذاک؟ فأخبره الخبر، فاقبل(عليه السلام) يرفل في بردة رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)، فلمّا نظر إليه عمر وثب قائماً فاعتنقه، وقال: يا أبا الحسن، أنت لکلّ معضلة وشدّه تدعي، فدعا علي کرّم الله وجهه اليهود، فقال: سلوا عمّا بدا لکم، فإنّ النبيّ(صلي الله عليه وآله وسلم) علّمني ألف باب من العلم، فتشعّب لي من کلّ باب ألف باب، فسألوه عنها، فقال علي کرّم الله وجهه: إنّ لي عليکم شريطة، إذا أخبرتکم کما في توراتکم دخلتم في ديننا وآمنتم؟ فقالوا: نعم، فقال: سلوا عن خصلة خصلة.

قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات ما هي؟ قال(عليه السلام): أقفال السماوات الشرک بالله لانّ العبد والامة إذا کانا مشرکين لم يرتفع لهما عمل.

قالوا: فأخبرنا عن مفاتيح السماوات ما هي؟ قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، قال: فجعل بعضهم ينظر إلي بعض ويقولون: صدق الفتي.

قالوا: فأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟ فقال: ذاک الحوت الذي التقم يونس بن متي فسار به في البحار السبع.

فقالوا: أخبرنا عمّن أنذر قومه لا هو من الجنّ ولا هو من الانس؟ قال: هي نملة سليمان بن داود، قالت: «يا أيّها النمل ادخلُوا مساکنکم لا يحطمنّکم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون».

قالوا: فأخبرنا عن خمسة مشوا علي الارض ولم يخلقوا في الارحام؟ قال: ذلکم آدم، وحوّاء، وناقة صالح، وکبش ابراهيم، وعصا موسي.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الدرّاج في صياحه؟ قال: يقول الرحمن علي العرش استوي.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الديک في صراخه؟ قال: يقول اذکروا الله يا غافلين.

قالوا: أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله؟ قال: يقول: إذا مشي المؤمنون إلي الکافرين للجهاد: اللهمّ انصر عبادک المؤمنين علي الکافرين.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الحمار في نهيقه؟ قال: لعن الله العشار وينهق في أعين الشياطين.

قالوا: فأخبرنا ما يقول الضفدع في نقيقه؟ قال: يقول: سبحان ربّي المعبود، المسبّح في لجج البحار.

قالوا: فأخبرنا ما يقول القنبر في صفيره؟ قال: يقول: اللهمّ العن مبغضي محمّد وآل محمّد.

وکان اليهود ثلاثة نفر، قال اثنان منهم: نشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله.

فوثب الحبر الثالث، وقال: يا علي، لقد وقع في قلوب أصحابي من الايمان والتصديق، وقد بقي خصلة واحدة أسالک عنها، فقال: سل عمّا بدا لک، فقال: أخبرني عن قوم في أوّل الزمان، ماتوا ثلاثمائة وتسع سنين ثمّ أحياهم الله، فما کان من قصّتهم؟ قال علي(رضي الله عنه): يا يهودي هؤلاء اصحاب الکهف، وقد أنزل الله علي نبيّنا قرآناً فيه قصّتهم، وإن شئت قرأت عليک قصّتهم.

قال اليهودي: ما أکثر ما سمعنا قراءتکم، إن کنت عالماً، فأخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأسماء مدينتهم، واسم ملکهم، واسم کلبهم، واسم جبلهم، واسم کهفهم، وقصّتهم من أوّلها إلي آخرها.

فاحتبي علي ببردة رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال: يا أخا العرب حدّثني حبيبي محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) أنـّه کانت بأرض روميّة مدينة، يقال لها «أفسوس» ويقال هي «طرسوس»، وکان اسمها في الجاهليّة أنسوس، فلمّا جاء الاسلام سموها «طرسوس» قال: وکان لهم ملک صالح، فمات ملکهم، وانتشر أمرهم، فسمع بهم ملک من ملوک فارس يقال له «دقيانوس» وکان جبّاراً کافراً، فأقبل في عساکر حتّي دخل «أفسوس» فاتّخذها دار ملکه وبني فيها قصراً.

فوثب اليهودي، وقال: ان کنت عالماً، فصف لي ذلک القصر ومجالسه، فقال: يا أخا اليهود! ابتني فيها قصراً من الرخام، طوله فرسخ، وعرضه فرسخ، واتّخذ فيها أربعة آلاف اسطوانة من الذهب وألف قنديل من الذهب لها سلسلة من اللجين، تسرج في کلّ ليلة بالادهان الطيّبة، واتّخذ لشرقي المجلس مائة وثمانين کوّة، ولغربيه کذلک، وکانت الشمس من حين تطلع إلي أن تغرب تدور في المجلس کيفما دارت، واتّخذ فيه سريراً من الذهب طوله ثمانون ذراعاً في عرض أربعين ذراعاً مرصّعاً بالجواهر، ونصب علي يمين السرير ثمانين کرسيّاً من الذهب، فأجلس عليها بطارقته، واتّخذ أيضاً ثمانين کرسيّاً من الذهب عن يساره، فأجلس فيها هراقلته، ثمّ جلس هو علي السرير ووضع التاج علي رأسه.

فوثب اليهودي، وقال: يا علي إن کنت عالماً، فاخبرني ممّ کان تاجه؟ فقال: يا أخا اليهود، کان تاجه من الذهب السبيک، له تسعة أرکان، علي کلّ رکن لؤلؤة تضيء کما يضيء المصباح في الليلة الظلماء، واتّخذ خمسين غلاماً من أبناء البطارقة، فمنطقهم بمناطق من الديباج الاحمر، وسرولهم بسراويل القزّ الاخضر، وتوّجهم ودملجهم وخلخلهم وأعطاهم عمد الذهب وأقامهم علي رأسه، واصطنع ستّة غلمان من أولاد العلماء وجعلهم وزراءه، فما يقطع أمراً دونهم، وأقام منهم ثلاثة منهم عن يمينه، وثلاثة منهم عن يساره.

فوثب اليهودي، وقال: يا علي إن کنت صادقاً، فأخبرني ما کانت أسماء الستة؟ فقال علي کرّم الله وجهه: حدّثني حبيبي محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) أنّ الذين کانوا عن يمينه أسماؤهم: «تمليخا، ومکسلمينا، ومحسلمينا» وأمّا الذين کانوا عن يساره «فمرطليوس، وکشطوس، وسادنيوس» وکان يستشيرهم في جميع اُموره، وکان إذا جلس کلّ يوم في صحن داره، واجتمع الناس عنده، دخل من باب الدار ثلاثة غلمة، في يد أحدهم جام من الذهب مملوء من المسک، وفي يد الثاني جام من الفضّة مملوء من ماء الورد، وفي يد الثالث طائر، فيصيح به، فيطير الطائر حتّي يقع في جام ماء الورد، فيتمرّغ فيه، فينشف ما فيه بريشه وجناحيه، ثمّ يصيح به ثانياً، فيطير فيقع في جام المسک، فيتمرغ فيه، فينشف ما فيه بريشه وجناحيه، فيصيح به ثالثاً، فيطير فيقع علي تاج الملک، فينفض ريشه وجناحيه علي رأس الملک بما فيه من المسک وماء الورد، فمکث الملک ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمّي ولا لعاب ولا بصاق ولا مخاط، فلمّا رأي ذلک من نفسه، عتا وطغي وتجبرّ واستعصي، وادّعي الربوبيّة من دون الله تعالي، ودعا إليه وجوه قومه، فکلّ من أجابه أعطاه وحباه، وخلع عليه، ومن لا يجبه ويتابعه قتله، فأجابوه بأجمعهم، فأقاموا في ملکه زماناً يعبدونه من دون الله.

فبينما هو ذات يوم جالس في عيد له علي سريره والتاج علي رأسه، إذ أتي أحد بطارقته فأخبره أن عساکر الفرس قد غشيته يريدون قتله، فاغتمّ لذلک غمّاً شديداً حتّي سقط التاج من رأسه، وسقط هو عن سريره، فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين کانوا عن يمينه إلي ذلک، وکان عاقلاً يقال له: تمليخا، فتفکّر وتذکّر في نفسه، وقال: لو کان دقيانوس هذا إلهاً کما يزعم، لما حزن، ولما کان ينام، ولما کان يبول ويتغوّط، وليست هذه الافعال من صفات الاله، وکانت الفتية الستّة يکونون کلّ يوم عند واحد منهم، وکان ذلک اليوم نوبة تمليخا، فاجتمعوا عنده، فأکلوا وشربوا ولم يأکل تمليخا ولم يشرب، فقالوا: يا تمليخا مالک لا تأکل ولا تشرب؟

فقال: يا إخوتي قد وقع في قلبي شيء منعني عن الطعام والشراب والمنام، فقالوا: وما هو يا تمليخا؟ فقال: أطلت فکري في السماء، فقلت: من رفعها سقفاً محفوظاً بلا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها؟ ومَنْ أجري فيها شمسها وقمرها؟ ومن زيّنها بالنجوم؟ ثمّ أطلت فکري في هذه الارض، من سطحها علي ظهر اليمّ الزاخر، ومن حبسها وربطها بالجبال الرواسي لئلاّ تميد؟ ثمّ أطلت فکري في نفسي، فقلت: من أخرجني جنيناً من بطن اُمّي؟ ومن غذاني وربّاني؟ إنّ لهذا صانعاً ومدبّراً سوي دقيانوس الملک.

فانکبت الفتية علي رجليه يقبّلونهما، وقالوا: يا تمليخا لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبک، فأشر علينا، فقال: يا إخواني ما أجد لي ولکم حيلة إلاّ الهرب من هذا الجبّار الي ملک السماوات والارض، فقالوا: الرأي ما رأيت. فوثب تمليخا فابتاع تمراً بثلاثة دراهم، وصرّها في ردائه، ورکبوا خيولهم وخرجوا.

فلمّا ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة، قال لهم تمليخا: يا إخوتاه، قد ذهب عنّا ملک الدنيا، وزال عنا أمره فانزلوا عن خيولکم، وامشوا علي أرجلکم لعلّ الله يجعل من أمرکم فرجاً ومخرجاً، فنزلوا عن خيولهم، ومشوا علي أرجلهم سبع فراسخ، حتّي صارت أرجلهم تقطر دماً لانّهم لا يعتادون المشي علي أرجلهم، فاستقبلهم رجل راع، فقالوا: أيّها الراعي أو عندک شربة ماء أو لبن؟ قال: عندي ما تحبّون ولکنّي أري وجوهکم وجوه الملوک، وما أراکم إلاّ هاربين فأخبروني بقصّتکم، فقالوا: يا هذا: إنّا دخلنا في دين لا يحلّ لنا الکذب، أفينجينا الصدق؟ قال: نعم، فأخبروه بقصّتهم، فانکبّ الراعي علي أرجلهم يقبّلها ويقول، قد وقع في قلبي ما وقع في قلوبکم، فقفوا اليّ هاهنا حتّي أردّ الاغنام إلي أربابها وأعود إليکم، فوقفوا له حتّي ردّها، وأقبل يسعي، فتبعه کلب له.

فوثب اليهودي قائماً، وقال: يا علي إن کنت عالماً، فأخبرنا ما کان لون الکلب واسمه؟ فقال: يا أخا اليهود، حدّثني حبيبي محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) أنّ الکلب کان أبلق بسواد، وکان اسمه قطمير.

قال: فلمّا نظر الفتية إلي الکلب، قال بعضهم: إنّا نخاف أن يفضحنا هذا الکلب بنبيحه، فألحّوا عليه طرداً بالحجارة، فلمّا نظر إليهم الکلب وقد ألحّوا عليه بالحجارة والطرد أقعي علي رجليه وتمطّي وقال بلسان طلق ذلق: يا قوم لم تطردونني وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريک له، دعوني أحرسکم من عدوّکم، وأتقرّب بذلک إلي الله سبحانه وتعالي، فترکوه ومضوا، فصعد بهم الراعي جبلاً، وانحطّ بهم أعلي کهف.

فوثب اليهودي، وقال: يا علي ما اسم ذلک الجبل؟ وما اسم الکهف؟ قال أمير المؤمنين: يا أخا اليهود اسم الجبل ناجلوس، واسم الکهف الوصيد، وقيل: خيرم.

قال: وإذا بفناء الکهف أشجار مثمرة، وعين غزيرة، فأکلوا من الثمار، وشربوا من الماء، وجنّهم الليل، فآووا إلي الکهف، وربض الکلب علي باب الکهف ومدّ يديه عليه، وأمر الله ملک الموت بقبض أرواحهم، ووکّل الله بکّل رجل منهم ملکين من ذات اليمين إلي ذات الشمال، ومن ذات الشمال إلي ذات اليمين، قال: وأوحي الله إلي الشمس فکانت تزاور عن کهفهم ذات اليمين إذا طلعت، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال.

فلمّا رجع الملک دقيانوس من عيده سأل عن الفتية، فقيل له: إنّهم اتّخذوا إلها غيرک، وخرجوا هاربين منک، فرکب في ثمانين ألف فارس، وجعل يقفو آثارهم، حتّي صعد الجبل وشارف الکهف، فنظر إليهم مضطجعين، فظنّ أنّهم نيام، فقال لاصحابه: لو أردت أن اُعاقبهم بشيء ما عاقبتهم بأکثر ممّا عاقبوا به أنفسهم، فأتوني بالبنّائين! فاُتي بهم، فردموا عليهم باب الکهف بالجبس والحجارة، ثمّ قال لاصحابه: قولوا لهم ليقولوا لالههم الذي في السماء: إن کانوا صادقين يخرجهم من هذا الموضع.

فمکثوا ثلاثمائة وتسع سنين، فنفخ الله فيهم الروح، وهموا من رقدتهم لمّا بزغت الشمس، فقال بعضهم لبعض: لقد غفلنا هذه الليلة عن عبادة الله تعالي، قوموا بنا إلي العين، فإذا بالعين قد غارت، والاشجار قد جفّت، فقال بعضهم لبعض: إنّا من أمرنا هذا لفي عجب، مثل هذه العين قد غارت في ليلة واحدة؟ ومثل هذه الاشجار قد جفت في ليلة واحدة؟

فألقي الله عليهم الجوع، فقالوا: أيّکم يذهب بورقکم هذه إلي المدينة؟ فليأتنا بطعام منها، ولينظر أن لا يکون من الطعام الذي يعجن بشحم الخنازير، وذلک قوله تعالي (فابعثوا أحدکم بورقکم هذه إلي المدينة فلينظر أيّها ازکي طعاماً) أي: أحلّ وأجود وأطيب. فقال تمليخا: يا إخوتي لا يأتيکم أحد بالطعام غيري، ولکن أيّها الراعي ادفع لي ثيابک وخذ ثوبي، فلبس ثياب الراعي ومرّ وکان يمرّ بمواضع لا يعرفها وطريق ينکرها، حتّي أتي باب المدينة، فإذا فيه علم أخضر مکتوب عليه لا اله إلاّ الله عيسي روح الله. «صلّي الله علي نبيّنا وعليه وسلّم».

فطفق الفتي ينظر إليه ويمسح عينيه، ويقول: أراني نائماً، فلمّا طال عليه ذلک دخل المدينة، فمرّ بأقوام يقرؤون الانجيل، واستقبله قوم لا يعرفهم حتّي انتهي إلي السوق، فإذا هو بخبّاز، فقال له: يا خبّاز ما اسم مدينتکم هذه؟ قال: أفسوس. قال وما اسم ملککم؟ قال: عبد الرحمن، قال تمليخا: ان کنت صادقاً فأمري عجيب، ادفع اليّ بهذه الدراهم طعاماً، وکانت دراهم ذلک الزمان الاول ثقالاً کباراً، فعجب الخبّاز من تلک الدراهم.

فوثب اليهودي، وقال: يا علي إن کنت عالماً فأخبرني کم وزن الدرهم منها؟ فقال: يا أخا اليهود، أخبرني حبيبي محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم): وزن کلّ درهم عشرة دراهم وثلثا درهم. فقال له الخباز يا هذا انّک قد أصبت کنزاً فأعطني بعضه، وإلاّ ذهبت بک إلي الملک. فقال تمليخا: ما اصبت کنزاً، وإنّما هذا ثمن تمربعته منذ ثلاثة أيّام، وقد خرجت من هذه المدينة وهم يعبدون دقيانوس الملک، فغضب الخبّاز، وقال: ألم ترض أن أصبت کنزاً أن تعطيني بعضه؟ حتّي تذکر رجلاً جبّاراً يدّعي الربوبيّة؟ قد مات قبل ثلاثمئة سنة وتسخر بي؟ ثمّ أمسکه واجتمع الناس، ثمّ أتوا به إلي الملک وکان عاقلاً عادلاً، فقال لهم: ما قصّة هذا الفتي؟ قالوا: أصاب کنزاً، فقال له الملک: لا تخف فإنّ نبيّنا عسي(عليه السلام) أمرنا أن لا نأخذ من الکنوز إلاّ خمسها.

فادفع إليّ خمس هذا الکنز وامضِ سالماً.

فقال: أيّها الملک تثبّت في أمري، ما أصبت کنزاً وأنا من أهل هذه المدينة، فقال له: أنت من أهلها؟ قال: نعم. قال: أفتعرف فيها أحداً؟ قال: نعم. قال الملک: فسمّ لنا. فسمّي له نحواً من ألف رجل، فلم يعرفوا منهم رجلاً واحداً، قالوا: يا هذا! ما نعرف هذه الاسماء، وليست هي من أهل زماننا، ولکن هل لک في هذه المدينة دار؟ قال: نعم أيّها الملک، فابعث أحداً معي. فبعث معه الملک جماعة حتّي أتي بهم داراً هي أرفع دار في المدينة، وقال: هذه داري، فقرع الباب، فخرج لهم شيخ کبير، قد استرخا حاجباه من الکبر علي عينيه، وهو فزع مرعوب مذعور، وقال: أيّها الناس ما بالکم؟ فقال له رسول الملک: إنّ هذا الغلام يزعم أنّ هذه الدار داره، فغضب الشيخ والتفت إلي تمليخا وتبينه وقال له: ما اسمک؟ قال: تمليخا بن فلسين. قال أعد عليّ، فاعاد عليه، فانکبّ الشيخ علي رجليه وقبّلهما، وقال: هذا جدّي وربّ الکعبة، وهو أحد الفتية الذين هربوا من دقيانوس الملک الجبّار إلي جبّار السماوات والارض، ولقد کان عيسي أخبرنا بقصّتهم، وانّهم سيَحْيَون.

فاُنهي ذلک إلي الملک، وأتي إليهم وحضرهم، ولمّا رأي الملک تمليخا نزل عن فرسه، وحمله علي عاتقه، فجعل الناس يقبّلون يديه ورجليه، ويقولون: يا تمليخا ما فعل بأصحابک؟ فأخبرهم أنّهم في الکهف، وکانت المدينة قد وليها رجلان: ملک مسلم، وملک نصرانيّ، فرکبا في أصحابهما وأخذا تمليخا، فلمّا صاروا قريباً من الکهف قال لهم تمليخا: يا قوم إنّي أخاف أنّ إخوتي يحسّون بوقع حوافر الخيل والدوابّ وصلصلة اللجم والسلاح، فيظنّون أنّ دقيانوس قد غشيهم فيموتون جميعاً، فقفوا قليلاً، حتّي أدخل إليهم فاُخبرهم.

فوقف الناس ودخل عليهم تمليخا، فوثب إليه الفتية واعتنقوه، وقالوا: الحمد لله الذي قد نجّاک من دقيانوس، قال: دعوني منکم ومن دقيانوس، کم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، قال: بل لبثتم ثلاثمائة وتسع سنين، وقد مات دقيانوس، وانقرض قرن بعد قرن، وآمن أهل المدينة بالله العظيم، وقد جاؤوکم، قالوا: يا تمليخا تريد أن تصيّرنا فتنة للعالمين؟ قال: فماذا تريدون؟ قالوا: ارفع يدک ونرفع أيدينا، فرفعوا أيديهم وقالوا: اللهمّ بحق ما أريتنا من العجائب في أنفسنا، إلاّ قبضت أرواحنا ولم يطّلع علينا أحد.

فأمر الله ملک الموت فقبض أرواحهم وطمس الله باب الکهف، وأقبل الملکان يطوفان حول الکهف سبعة أيّام، فلا يجدان له باباً ولا منفذاً ولا مسلکاً، فأيقنا حينئذ بلطيف صنع الله الکريم، وانّ أحوالهم کانت عبرة أراهم الله إيّاها. فقال المسلم علي ديني ماتوا، وأنا أبني علي باب الکهف مسجداً، وقال النصراني، بل ماتوا علي ديني، فأنا أبني علي باب الکهف ديراً، فاقتتل الملکان، فغلب المسلم النصراني، فبني علي باب الکهف مسجداً.

فذلک قوله تعالي: (قال الذين غلبوا علي أمرهم لنتّخذنّ عليهم مسجداً)وذلک يا يهودي، أوافق هذا ما في توراتکم؟ فقال اليهودي: ما زِدت حرفاً ولا نقّصت حرفاً، يا أبا الحسن لا تسمّيني يهوديّاً، فإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّک أعلم هذه الاُمّة.