كتابة الوصيّة











کتابة الوصيّة



رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ممدّد علي فراش المرض وقد ثقل عليه المرض، الحمّي تلهب جسده المطهّر، وکلّ شي ء يومئ إلي أنّ ساعة الرحيل قد أزفت، وأنّ النبيّ يوشک أن يفارق هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد الحثيث المثابر. ما يشغل النبيّ في هذه اللحظات الحرجة ويقضّ عليه مضجعه هو مستقبل الاُمّة، والغد الذي ستؤول إليه رسالته الفتيّة، وهذه الشجرة الطيّبة التي لا تزال بحاجة إلي الرعاية والحماية، وإلي عناية من نوع خاصّ.

في هذه اللحظات الثقيلة بوطأة الفراق الذي أوشک، وإذا بصوت يصدع من الحجرة النبويّة، ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «ائتوني بکتاب أکتب لکم کتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».[1] .

انفجر المشهد عن لغط تحوّل بالتدريج إلي صياح وخصام في محضر النبيّ الأقدس، ثمّ ندت عن أحد الحاضرين کلمة قارصة موجعة بعيدة کلّ البعد عن مقام النبيّ وشأوه العظيم. لقد بلغ من احتدام الموقف أنّ النساء صحن من وراء الستر إشفاقاً علي النبيّ، وهنّ يحثّنّ الرجال أن يُقرّبوا إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما طلبه،

[صفحه 89]

فما کان من صاحب ذلک الصوت إلّا أن عاد يطعن بهنّ.[2] .

عندها أحجم النبيّ عن الحاضرين، ونادي بهم: «قوموا عنّي»![3] .

لم تُکتب هذه الوصية النبويّة، لکن محتواها کان واضحاً لکثيرين- ولا يزال- وهم يعرفون تماماً لماذا أحجم النبيّ عن إملائها.

لا ريب أنّ محتوي الوصيّة هو تأکيد آخر علي ما تمّ إبلاغه في الغدير من الولاية وتحديد مستقبل الاُمّة ومصيرها، تشهد علي ذلک النقاط التالية:

1- إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تحدّث عن «التمسّک» بالثقلين مرّات ومرّات، وعدَّ ذلک عصمة للاُمّة من مهاوي الردي والضلال. وفي حديثه عن هذه الوصيّة صرّح بالخصلة ذاتها، وهو يقول: «کتاباً لن تضلّوا».

2- ينبغي أن ندرس ونتأمّل طبيعة الشي ء الذي إذا کتبه الرسول يُثير کلّ هذا الصخب والتوجّس وردود الأفعال، حتي ليستمرئ بعض الحاضرين توجيه تلک المقالة المهينة إلي رسول اللَّه، هل کان ثمَّ شي ء خليق بإثارة هذا الجوّ العنيف المنفعل غير قضيّة «القيادة»، حتي بلغ من ضوضاء القوم أن أمر النبيّ بإخراجهم وإبعادهم عنه، بکلمات ملؤها الألم!

3- کان ابن عبّاس يتحدّث عن تلک الرزيّة [رزيّة الخميس] علي الدوام، ويُعيد ذکراها بتوجّع وألم، حتي کانت دموعه تسيل علي خدّيه في بعض

[صفحه 90]

المرّات، وقد قال إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أوصي بثلاث بعد الذي قالوا، قال: «أخرجوا المشرکين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما کنت اُجيزهم...».

ثمّ ذکر ابن أبي نجيح الذي روي الخبر عن سعيد بن جبير، ما نصّه: وسکت سعيد عن الثالثة، فلا أدري أسکت عنها عمداً؟! وقال مرّة: أو نسيها؟ وقال سفيان مرّة: وإمّا أن يکون ترکها أو نسيها![4] .

أنسي سعيد! أم اعتصم بالصمت وهو يبصر سيف الحجّاج بن يوسف يبرق فوق الرؤوس؟ وهل اختارت ذاکرة التاريخ إلّا أن تدفع الأمر إلي مطاوي العدم والنسيان لتفتک ب «الحقيقة» وتاُدّها لمصلحة الجهاز الحاکم، وتذبحها علي دکّة «المصلحة»!

يکتب العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين: «ليست الثالثة إلّا الأمر الذي أراد النبيّ أن يکتبه حفظاً لهم من الضلال، لکن السياسة اضطرّت المحدّثين إلي نسيانه، کما نبّه إليه مفتي الحنفيّة في «صور» الحاج داود الددا.[5] .

هکذا يتّضح أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عندما منع من الکتابة، عاد ليؤکّد الأمر شفويّاً في إطار وصايا اُخري، ولکن!

4- اعتراف عمر بن الخطّاب: لقد صرّح عمر بهذه الحقيقة، وعدّ ما قام به- من منع النبيّ والحؤول بينه وبين أن يکتب- تدارکاً لمصلحة الاُمّة! يقول: «ولقد أراد [صلي الله عليه و آله] في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعتُ من ذلک إشفاقاً وحيطة علي

[صفحه 91]

الإسلام. لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب مِن أقطارها، فعلم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنّي علمت ما في نفسه فأمسک»![6] .



صفحه 89، 90، 91.





  1. صحيح البخاري: 2888:1111:3.
  2. راجع: الطبقات الکبري: 243:2.
  3. صحيح البخاري: 2888:1111:3 و ج 114:54:1، راجع: غاية جهد النبيّ في تعيين الوليّ/ طلب الصحيفة والدواة.
  4. مسند ابن حنبل: 1935:477:1.
  5. المراجعات: 455.
  6. شرح نهج البلاغة: 21:12؛ کشف اليقين: 562:463، کشف الغمّة: 46:2.