مناشدة الإمام











مناشدة الإمام



عندما رأي الإمام عليّ عليه السلام أنّ الجهاز السياسي الحاکم راح ينتهز الفرصة في تجاهل الواقعة وکتمانها، بادر إلي اُسلوب فاعل لمواجهة ذلک. لم يلجأ الإمام إلي مواجهة الوضع الجديد علي أساس صدامي مباشر، ولم يَر من المناسب أن يلتحم في معرکة حامية تثير الفتنة والاضطراب، لأسباب کان يقدّرها، ومرّت إليها الإشارة في موضعها. بيد أنّه لم يکفّ يده قط عن إظهار الحقّ، والإجهار بالحقيقة وبما کان قد حصل يوم الغدير مستفيداً من أيّة فرصة تؤاتيه لإعلان ذلک. فإذا ما واجه أحدهم الإمام بسؤال کان يُجيبه بصراحة، وإذا ما کان بين الناس ورأي الأجواء مؤاتية بادر هو للحديث عن واقعة الغدير طالباً ممّن کان حضر الواقعة من الحاضرين أن يشهدوا بما أبصروا ورأوا.

کما کان يحصل أحياناً أن يقسم الإمام علي أشخاص لاذوا بالصمت خوفاً أو طمعاً، ويحثّهم علي إظهار الحقّ والصدع به، حتي لا تضيع الحقيقة وتندثر في مطاوي النسيان.

إنّ الوقائع من هذا القبيل کثيرة، وقد اشتهرت في تصانيف المحدّثين والمؤرّخين ب «المناشدة»، وقد حصلت بوفرة سواء في عهد عزلة الإمام أو في عصر خلافته، لکي لا يضيع الحقّ علي الجيل الجديد، ولا تلتبس عليه الحقيقة، ويصير ضحيّة التجهيل والتضليل.

[صفحه 85]

من ذلک ما ذکروه، من أنّ الإمام حضر في مجتمع الناس بالرحبة في الکوفة واستنشدهم بحديث الغدير، حيث قالوا: نشد عليّ عليه السلام الناس في الرحبة من سمع النبيّ صلي الله عليه و آله يقول يوم غدير خُمّ ما قال، إلّا قام. فقام بضعة عشر رجلاً من الصحابة.[1] .

لقد دأب الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام علي تأکيد هذه الحقيقة دائماً وفي کلّ مکان، حيث راح يحثّ من حضر الواقعة علي الإدلاء بشهادته، کي لايضيع حقّ «الحقّ» ولا يلفّه النسيان. علي هذا کانت شهادة هؤلاء القوم مهمّة بالنسبة إلي الإمام، وعندما اختار بعضهم- ممّن لم يُرتقب منه ذلک أبداً- الکتمان والامتناع عن إبداء الشهادة، دعا عليهم الإمام بألمٍ وتوجّع.[2] .

أفيکون کلّ هذا الحثّ والإصرار، والحرص والتحرّق علي إضاءة المشهد وإبقاء الواقعة حيّة لا تُنسي، لمحض أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال في جملةٍ: أحبّوا عليّاً وانصروه! ثمّ هل لنا أن نتصوّر أنّ الجهاز الحاکم فرض السکوت علي تلک الجموع الکثيرة التي حضرت الواقعة، بحيث کان الإمام عندما ينشدهم لم تنهض منهم إلّا قلّة ضئيلة فيما تلوذ الأکثريّة بالصمت خوفاً أو طمعاً، إنّما کان من أجل أن يحولوا بين القلوب والنفوس وبين جملة أوصي بها النبيّ بحبّ عليّ؟



صفحه 85.





  1. راجع: مناشدات عليّ.
  2. راجع: الدعاء علي الکاتمين.