محتوي الخطبة











محتوي الخطبة



إنّ الطريقة التي بدأ بها النبيّ صلي الله عليه و آله خطبته، وکيفيّة إدامتها، والطريقة التي اختار بها عرض الموضوع، والنسق الحماسي المؤثّر الذي شاب کلمات الرسول وذلک الإيقاع المتحرّق الأخّاذ في کلماته، کلّ ذلک لا يدع مجالاً للشکّ في أنّ الموضوع أهمّ وأخطر بکثير ممّا تصوّره البعض.

لنبقَ مع إحدي الصيغ التاريخيّة التي توفّرت علي بيان النصّ، ثمّ نتأمّل ما فيه من إيحاءات. عن حذيفة بن أسيد، قال:

«لمّا قفل رسول اللَّه من حجّة الوداع نهي أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهنّ، ثمّ بعث إليهم فصلّي تحتهنّ، ثمّ قام فقال: أيّها الناس! قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلّا مثل نصف عمر الذي قبله، وإنّي لأظنّ أن يوشک أن اُدعي فاُجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا

[صفحه 76]

أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّک قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاک اللَّه خيراً. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟ قالوا: بلي نشهد بذلک. قال: اللهمّ اشهد، ثمّ قال: يا أيّها الناس! إنّ اللَّه مولاي، وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم؛ من کنت مولاه فهذا مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه.

ثمّ قال: أيّها الناس! إنّي فرطکم وإنّکم واردون علي الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصري وصنعاء، فيه آنية عدد النجوم قِدحان من فضّة، وإنّي سائلکم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا کيف تخلفوني فيهما؛ الثقل الأکبر کتاب اللَّه سبب طرفه بيد اللَّه وطرف بأيديکم، فاستمسکوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».[1] .

إنّ نسق بيان الخطبة ليدلّ علي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله راح بادئ الأمر يهيّئ القلوب ويعدّها، ويدفع بالأفکار إلي التأمّل، ويحثّ الآذان علي الانتباه والإصغاء، حتي تنفتح بصائر القلوب، فيملأ الأفئدة إيماناً، وتستوطن کلماته النديّة الشجيّة الأعماق، ذلک کلّه لکي لا ينقلب أحد من الناس في الغد وما بعد الغد إلي إنکار ما سمع من خطاب الرسول إلّا أن يکون ذلک عن ضلالة وعمي، وعن عناد أمام الحقّ الصراح.

تحدّث النبيّ صراحة بأنّ ساعة الرحيل قد أوشکت، وما أقرب أن يُودّع

[صفحه 77]

الاُمّة إلي الرفيق الأعلي؛ کي يحفّز بذلک الأذهان ويستحثّها للتفکير بأمر الخلافة، ويدفعها للتأمّل في الصيغة التي تستمرّ فيها القيادة من بعده.

لقد جاءت کلمات النبيّ: «إنّي مسؤول، وأنتم مسؤولون» لتلقي شحنة مرکّزة وقويّة علي المسؤوليّة العامّة الملقاة علي عاتق الجميع، وکأنّه صلي الله عليه و آله يقول: أنا مسؤول أن أصدع بالحقّ وأهتف بالحقيقة کما هي، وأنتم مسؤولون أن تُصغوا وتتأمّلوا ثمّ تعملوا.

ثمّ انعطف يتساءل: لقد مکثت فيکم سنوات مديدة اُبلّغ رسالات ربّي فماذا أنتم قائلون؟ أجاب الحشد بصوت واحد عالي الرنين، رفيع الصدي: نشهد أنّک قد بلّغت وجاهدت، فجزاک اللَّه خيراً.

واستمرّ النبيّ يسترسل بتساؤلاته إلي الجمع المحتشد أمامه، عن اُصول ما جاء به إليهم، فشهدوا بالتوحيد والرسالة، وأ نّه الأولي عليهم من أنفسهم في جميع شؤون الحياة، فأشهد اللَّه عليهم قائلاً: اللهمّ اشهد.

هي ذي اللحظة الموعودة أزفت، إنّ هذا کلّه کان کالتمهيد، ترقّب عارم يحفّ بالمشهد، الأبصار تطمح تلقاء المُحيّا النبوي، الآذان مشدودة إليه، وتساؤلات تسکن الأعماق: ما الذي يريد أن يقوله النبيّ من وراء ذلک؟

تدفّقت الکلمات من فم النبيّ صلي الله عليه و آله: «من کنت مولاه فهذا مولاه».

وطفق النبيّ بعدها يدعو لمن والاه، وأنّ من يعتو عن هذا الأمر، ويعلو عليه، ولا يسلّم لصاحب الولاية بولايته، فهو في الحقيقة يُعلن المعرکة ضدّ الرسول، ويشهرها حرباً علي النبيّ نفسه.

أبعد هذا يسفّ بعاقل رأيه، ويتداعي به حزمه، فيزعم أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فعل

[صفحه 78]

ذلک کلّه کي يوصي بحبّ علي؟!

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يعلم أنّ في قومه من لا يطيق هذه الحقيقة، وأنّ فيهم من سيحرّض علي «المولي» ويحشّد الصفوف لمواجهته، جامحاً عن الحقّ، فشدّد وحذّر، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلي جانب آخر، ليعيد تأکيد الأمر من بُعدٍ جديد.

ذکر القيامة، وعاد ينبّه إلي لحظة الفراق، مشيراً: إنّني اُوشک أن اُدعي فاُجيب، لکنّي أتوجّس المستقبل، فماذا أنتم فاعلون! موعدنا هناک، علي الحوض، ستجدوني أقف بانتظارکم، أترقّبکم کيف ترِدون.

صلّي اللَّه عليک يا ضياء العالم، ويا سراج الوجود المنير، لقد صدعت بکلمات اللَّه، وبلّغت رسالة السماء بما هي أهله، وأدّيت حقّ «الحقّ» اُداءً شرُفت به الحياة، وأضاءت به مقادير الإنسان.

صلّي الله عليک، وقد صدعت بولاية عليّ بصدر مشحون بالغصص والآلام، لعلمک بالمدي الذي ستبلغه مکائد القوم واحَنهم، وهي توشک أن تنطلق قويّة ضارية، تحيک المؤامرات والمتاعب من کلّ حدب وصوب. بيد أنّک حفظت للحقّ حرمته، وأدّيت الأمانة.

فسلام عليک- نُزجيه خاشعين- عمّا أعطيت وهديت، وعلي الذين نهجو نهجک الوضّاء، وسلکوا سبيلک، وبذلوا مهجتهم فيک.



صفحه 76، 77، 78.





  1. البداية والنهاية: 349:7.