القرائن العقليّة











القرائن العقليّة



1- الحصيلة التي تجمّعت بين أيدينا حتي الآن لا تدع- باعتقادنا- مجالاً للشکّ في أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد عيّن في ذلک المشهد المهيب قائد المستقبل، وحدّد للاُمّة الإسلاميّة الإمام المرتقب. وما يمکن أن نضيفه الآن، أنّ من يعتقد أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لم يکن قد صدع بالولاية في ذلک الجمع العظيم، ولم يکن قد أعلن الخلافة عبر ذلک الخطاب الذي تفجّر حماساً وترکيزاً علي هذه النقطة، ومن ثَمّ فإنّ من يذهب إلي أنّ النبيّ قد اختار موقف الصمت إزاء مستقبل الاُمّة وغد الرسالة، لا يسعه أن يدرک مِن الذي ذکرناه دلالته علي المستقبل، وسيکون عاجزاً عن أن يفهم منه تعييناً للإمامة التي تتبوّأ القيادة بعد النبيّ.

تماشياً مع قناعة هذا النظر ينبغي أنّ نفترض أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لم يکن قد فکّر في مستقبل الرسالة، ولم يرسم لغد الاُمّة بعده مشروعاً محدّداً واضح المعالم والأرکان، ولم يحدّد موقع الإمامة بعد غيابه، بل ترک الاُمّة کقطيع دون راعٍ، وکهباء ضائع في خلاء، ومن ثمَّ فهو لم يجهر بالحقيقة الناصعة علي هذا الصعيد ولم يعلنها بلاغاً صادعاً تتناقله العصور والأجيال! هذا مع أنّنا رأينا في مطلع البحث أنّ الفرضيّات الاُخري حيال مستقبل الاُمّة، غير نظريّة النصّ علي القيادة، تتّسم بأجمعها بالسقم والاضطراب وعدم الصواب.

والسؤال مجدّداً: أيقبل العقل- أيّ عقل کان- هذه السلبيّة واللامبالاة علي

[صفحه 71]

هذا «الطبيب الدوّار»؟[1] وهل يصدق هذا علي نبيّ لبث شامخاً ناهضاً متفانياً لم يتلعثم عزمه قط، ولم يکفّ عن التفکير في مستقبل الاُمّة والرسالة لحظة واحدة؟ حاشا رسول اللَّه أن يفعل ذلک، وجلّت عن ذلک حکمته وصوابه، وحزمه وثباته.

2- کيفيّة انبثاق المشهد وانطلاق البلاغ: حجّ المسلمون مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهمّوا بمغادرة مکّة عائدين إلي ديارهم ومواضع سکناهم بعد أن انتهت المراسم. أفواج تتلوها أفواج، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض، تترک البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا. کذلک مضت قافلة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة.

اقتربت القافلة النبويّة من «وادي خمّ» وهو وادٍ موصوف بکثرة الوخامة وشدّة الحر،[2] فجاء وحي السماء من فوره، يأمر النبيّ أن يقف حيث هو. وراح منادي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يأمر من تقدّم أن يعود، ويحبس من تأخر؛ ليجتمع الناس سواءً في مکان واحد، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد.

أرض جرداء غير مسکونة مفتوحة علي صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس حارّة لاهبة، وقد أمر النبيّ صلي الله عليه و آله أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل، حتي إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه.

احتشد المکان بعشرات الاُلوف،[3] أدّي النبيّ صلي الله عليه و آله صلاة الظهر، ثمّ راح يستعدّ

[صفحه 72]

لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلي حيث يقف النبيّ مستعدّاً لأمرٍ مهم. الشمس تستقرّ في کبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة، فتتحوّل الصحراء في تلک الظهيرة إلي کتلة ملتهبة. الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة، وبعضهم يفي ء إلي المتاع والرحال يلوذ بظلاله.

مشهد يقتحم الذاکرة ويستعصي علي النسيان. رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يصعد الموضع الذي صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل، وبصوته النديّ الشجيّ مضي يملأ بکلماته الأفئدة والأسماع، ويُلقي خطبته علي عشرات الاُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم.

بدأ الخطبة، حمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات علي جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة، وما بذله لهم من النصيحة في دين اللَّه،

وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة. فشهدوا له وشهدوا، وردّدوا ذلک بصوت واحد. کان هذا کلّه کالتمهيد، حتي إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الکلام النبوي من مغزي، أزِفت اللحظة الموعودة، فما کان من النبيّ إلّا أن أخذ بعضد عليّ ورفعه حتي بان بياض آباطهما، وصدع يقول: «من کنت

[صفحه 73]

مولاه فعليّ مولاه».

والآن هلمّوا نُبصر المشهد، ونتأمّل فيه عن کثب. ما الذي کان يبتغيه النبيّ بکلّ هذا التمهيد، وفي فضاء مثل هذا تحتشد فيه الاُلوف المؤلّفة؟ وما الذي کان يُريده من إعلان هذا الکلام وسط جوّ حارّ ملتهب يتجمهر فيه هذا الجمع العظيم؟ هل کان ما يقصده من قوله: «من کنت مولاه فعليّ مولاه» هو الإعلان عن حبّ عليّ عليه السلام وحسب؟ ألم يتحدّث النبيّ صلي الله عليه و آله إلي الناس في أکثر من موضع من حجّته الأخيرة؛ حجّة الوداع العظيمة، عن أهل بيته، ويرکّز علي مودّتهم من بين ما تحدّث به إلي المسلمين. أفتراه الآن جمع الاُلوف في هذه الرمضاء التي تشتعل النار في ترابها، طالباً منها الإصغاء إلي کلامه، وإلي أن يُبلّغ الشاهد الغائب؛ لمحض أن يوصيها بحبّ عليّ!

أيحتاج حبّ عليّ إلي وصيّة وهو سيّد المؤمنين وأميرهم والشخصيّة الخارقة في مدرسة محمّد صلي الله عليه و آله حيث لا تُضاهي مکانتها شخصيّة في هذا الدين؟ ثمّ أليس المؤمنون مأمورون في کتاب اللَّه بحبّ بعضهم بعضاً، ومن ثمّ هم مأمورون بحبّ عليّ بالضرورة؟ فهل يحتاج کلام کهذا إلي کلّ هذا التمهيد والإعداد؟

سبق أن عرضنا أحاديث «حبّ عليّ» وقد رکّزنا هناک أيضاً إلي أنّها تنطوي علي مدلول أعظم، وغاية أسمي تتخطّي حدود الحبّ الصوري العادي. ولطالما تساءلنا عن هذا العناء الذي تجشّمه الناس في تلک الظهيرة الحارقة؛ فهل کانت هذه المشقّة والأذي البليغ من أجل أن يسمع الناس کلاماً يوصيهم بحبّ عليّ؟! تکشف هذه المؤشّرات بأجمعها أنّ ما کان يبتغيه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بجملته تلک يتخطّي هذه التصوّرات العاديّة، ويتجاوزها إلي مدلول أهمّ وأخطر، هذا المدلول هو الذي أملي علي النبيّ صلي الله عليه و آله أن يعدّ- بأمر اللَّه- هذا المشهد العظيم بوقائعه

[صفحه 74]

الأخّاذة، ومعانيه التي لا تُنسي، کي يصدع مرّة اُخري بذلک البلاغ الخطير، باُسلوب أوضح، حتي يعود المسلمون إلي ديارهم ومواطن سکناهم وفي أفئدتهم صدي الکلمات التي سمعوها في خطاب الرسول، وفي ضمائرهم والعقول يستقرّ ذلک البلاغ الخطير.

هل لعقل أن يفهم من المشهد غير هذا؟ وهل ثمّ عقل يسيغ تلک التوجيهات والدعاوي الواهية التي ساقوها من حول الواقعة! «إِنَّ فِي ذَ لِکَ لَذِکْرَي لِمَن کَانَ لَهُ و قَلْبٌ أَوْ أَلْقَي السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ».[4] .



صفحه 71، 72، 73، 74.





  1. إشارة إلي کلام الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يصف فيه النبيّ صلي الله عليه و آله، بقوله: «طبيب دوّار بطبّه». راجع: نهج البلاغة: الخطبة 108.
  2. وفيات الأعيان: 231:5.
  3. حول عدد الحاضرين في واقعة غدير خُمّ وردت أقوال مختلفة، منها: 10000 ،1300 شخص (المناقب لابن شهر آشوب:26:3) 12000 ،10000 شخص (تفسير العيّاشي: 153:333:1 و ص 143:329) 17000 شخص (جامع الأخبار: 52:47)، 124000 ،114000 ،90000 ،70000 ،40000، شخص (السيرة الحلبيّة: 257:3) 70000 ، شخص (الاحتجاج: 32:134:1) 120000 شخص (تذکرة الخواصّ: 30). وراجع الغدير: 9:1 وبحارالأنوار: 139:37 و ص 158 و 165.
  4. ق: 37.