دلالة الحديث











دلالة الحديث



يظهر ممّا ذکرناه في بداية البحث وما سنعمل تفصيله أکثر عبر نصوص جمّة، أنّ أحداً لم يکن يشکّ أو يناقش في أنّ مدلول جملة: «من کنت مولاه فعليّ مولاه» إنّما کان يُشير إلي الرئاسة وتولّي الأمر، وإلي الإمامة والزعامة، علي هذا مضت سُنّة السلف ومن عاصر الحديث، دون أن يفهم أحد ما سوي ذلک. ولا جدال أنّ للفظ «المولي» في اللغة معاني أوسع من ذلک،[1] لکن ليس ثمَّ شي ء من

[صفحه 66]

تلک المعاني يمکن أن يکون هو المراد، إنّما المقصود بمدلول الحديث هو الذي ذکرناه، وفهمه الجيل الأوّل.

«المولي» في الأدب العربي

إنّ تفحّص النصوص الأدبيّة القديمة، ودراسة متون اللغة والتفسير، ليدلّ دون ريب أنّ إحدي المعاني الواضحة ل «المولي» هي الرئاسة والأولي بالتصرّف في اُمور «المولّي عليه»، وهي بمعني الزعامة والولاية.

وفيما يلي نستعرض بعض النصوص والشواهد اللغويّة والتفسيريّة الدالّة علي ذلک:

کتب أبو عبيدة معمر بن المثنّي البصري في تفسير الآية (15) من سورة الحديد، عند قوله: «هِيَ مَوْلَل-کُمْ»: «أي: أولي بکم».[2] .

ثمّ شيّد تفسيره وصوّبه علي أساس بيت من الشعر الجاهلي استشهد به، وهو:


فغدت کلا الفرجَين تحسبُ أنّهُ
مولي المخافةِ خلفَها وأمامَها


لقد قصد شرّاح «المعلّقات السبع» علي أخذ المولي في بيت لبيد المذکور بمعني «الأولي»، وعلي هذا مضوا في شرح الشعر.[3] .

کتب المفسّر والنسّابة المعروف محمّد بن السائب الکلبي، في تفسير الآية (51) من سورة التوبة: «قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا کَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَل-نَا وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَکَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ما نصّه: «أولي بنا من أنفسنا في الموت والحياة».[4] .

[صفحه 67]

وکتب الأديب والمفسّر الکوفي المشهور أبو زکريّا يحيي بن زياد بن عبد اللَّه المعروف بالفرّاء، في تفسير الآية (15) من سورة الحديد، ما نصّه: ««هِيَ مَوْلَل-کُمْ»: أي أولي بکم».[5] .

وإلي هذا ذهب أيضاً أبو الحسن الأخفش، وأبو إسحاق الزجّاج، ومحمّد بن القاسم الأنباري وآخرون.[6] .

ذکرنا أيضاً أنّ مجي ء مولي بمعني المتولّي والقيّم علي الاُمور هو کذلک من بين أجلي استعمالات هذا اللفظ، وقد صرّح به کثير منهم:

أبو العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرّد، في تفسير الآية (11) من سورة محمّد: «ذَ لِکَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَء َامَنُواْ»، حيث کتب: «والولّي والمولي معناهما سواء، وهو الحقيق بخلقه المتولّي لاُمورهم».[7] .

کما جاء عن الفرّاء، قوله: «الوليّ والمولي في کلام العرب واحد».[8] .

کتب المفسّر والأديب والباحث القرآني المعروف في القرن الهجري الرابع الراغب الإصفهاني، ما نصّه: «والولاية تولّي الأمر، والوليّ والمولي يستعملان في ذلک، کلّ واحد منهما يقال في معني الفاعل أي المُوالي، وفي معني المفعول أي المُوالي».[9] .

کتب المفسّر والأديب المعروف في القرن الهجري الخامس أبو الحسن عليّ

[صفحه 68]

بن أحمد الواحدي النيسابوري، في تفسير الآية (62) من سورة الأنعام: «ثُمَّ رُدُّواْ إِلَي اللَّهِ مَوْلَل-هُمُ الْحَقِّ» ما نصّه: «الذي يتولّي اُمورهم».[10] .

في الواقع صرّح بهذه الحقيقة علماء کثيرون نذکر من بينهم أيضاً المفسّر المعتزلي الکبير جار اللَّه الزمخشري، الذي کتب في تفسير الآية (286) من سورة البقرة: «أَنتَ مَوْلَل-نَا فَانصُرْنَا» ما نصّه: «سيّدنا ونحن عبيدک، أو ناصرنا أو متولّي اُمورنا».[11] .

أمّا ابن الأثير فقد کتب في مصنّفه القيّم «النهاية» الذي تناول فيه غريب الحديث النبوي وألفاظه الصعبة، ما نصّه في معني «المولي»: «قد تکرّر ذکر المولي في الحديث، وهو اسم يقع علي جماعة کثيرة... وکلّ من وَليَ أمراً أو قام به فهو مولاه ووليّه... ومنه الحديث «أيّما امرأةٍ نُکحت بغير إذن مولاها فنکاحها باطل»، وفي رواية «وليّها» أي متولّي أمرها.[12] .

علي هذا الضوء يتّضح أنّ «الأولويّة في الاُمور»، و «تولّي الاُمور» و «السيادة والرئاسة والزعامة» هي حقائق ثابتة ومعروفة في معني المولي، کما أنّ تساوي معني «المولي» مع «الوليّ» هي أيضاً حقيقة أکّد عليها العلماء والمفسّرون کما مرّت الإشارة لذلک.[13] .

[صفحه 69]

وبذلک نحن نعتقد- کما يتّفق معنا في ذلک أيضاً المنصفون وأتباع الحقّ من جميع الفرق والمذاهب-[14] انّ ما قصده رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في ذلک المشهد العظيم الخالد، من خلال هذه الجملة المصيريّة الخطيرة، هو الإعلان عن «ولاية» عليّ بن أبي طالب و «إمامته» و «زعامته» وليس أيّ شي ء آخر. لقد اُعدّ المشهد وتمّت تهيئة ذلک الحشد العظيم لغرض واحد فقط، هو إعلان الولاية العلويّة للمرّة الأخيرة علي مرآي الجميع، هو إعلان أخير لکن احتشدت فيه کلّ عناصر التأثير والجاذبية لکي يستعصي علي النسيان ويستوطن وعي الجميع وذاکرتهم، حتي إذا ما أوشکت ساعة الرحيل ومضي النبيّ إلي ربّه؛ لا يقول قائل: لم أدرِ ما الخبر؟ أو لم أکن أعلم بالأمر ولم أسمع به!

لهذا کلّه حرص النبيّ صلي الله عليه و آله علي أن يأخذ من القوم العهد والميثاق، وأقرّهم مرّات علي ما أبلغهم به، حتي إذا أقرّوا له، عاد يخاطب الجمع: «ألا فليبلّغ الشاهد الغائب».

أمّا الآن فقد آن لنا أن ندرس ملازمات قلب هذا المعني؛ فلو قلنا إنّ مدلول هذا الحديث النبوي لم يکن يعني الولاية وقيادة الاُمّة في المستقبل، فما هي اللوازم التي تترتّب علي هذا النمط من التفسير؟ هل تري العقل يذعن للمشهد بمثل هذ التفسير؟ ثمّ ننعطف إلي تحليل الواقعة ودراسة مکوّناتها وتأمّل الکيفيّة التي انبثق علي أساسها المشهد؛ لنخرج من حصيلة ذلک کلّه إلي أنّ الحقيقة تکمن فيما ذکرناه أثناء التحليل الاصطلاحي واللغوي لذلک الجزء من الحديث

[صفحه 70]

النبوي وحسب، وليس ثَمَّ شي ء أو أشياء وراء ذلک. واللَّه من وراء القصد.



صفحه 66، 67، 68، 69، 70.





  1. راجع: الغدير: 362:1، حيث استعرض عدداً من هذه المعاني.
  2. مجاز القرآن: 254:2.
  3. شرح المعلّقات السبع للزوزني: 210، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات للأنباري: 565 وراجع الغدير: 345:1.
  4. البحر المحيط: 53:5.
  5. معاني القرآن: 124:3، تفسير الفخر الرازي: 228:29.
  6. راجع: نفحات الأزهار: 86:8 تا 140 والغدير: 345:1.
  7. الشافي: 271:2.
  8. معاني القرآن: 161:2؛ الشافي: 271:2.
  9. مفردات ألفاظ القرآن: 885.
  10. الوسيط في تفسير القرآن المجيد: 281:2.
  11. الکشّاف: 173:1.
  12. راجع: النهاية: 228:5. والطريف أنّ ابن الأثير عدّ حديث الغدير منطبقاً علي هذا المعني، وقد استشهد في ذلک بکلام عمر: «أصبحت مولي کلّ مؤمن»، حيث قال: «أي وليّ کلّ مؤمن».
  13. راجع: نفحات الأزهار: 16:6 والغدير: 345:1. لقد وثّق هذان العالمان الجليلان المنافحان عن حياض الحقّ، هذه الحقيقة التي ذکرناها من خلال عشرات المصادر اللغويّة والأدبيّة والتفسيريّة.
  14. من الحريّ أن نشيد بالباحث المصري الجاد محمّد بيّومي مهران، اُستاذ جامعة الإسکندريّة، الذي سلّم بهذه الحقيقة دون أدني تردّد، وسجّل صراحة أنّ المعني ب «المولي» جزماً هو الأولي بالتصرّف. راجع: الإمامة وأهل البيت: 120:2.