احاديث العصمة











احاديث العصمة



إنّ «العصمة» بمعني الوقاية من الذنب والخطأ والجهل، والاحتراز من الاعوجاجات التي تشوب السلوک، هي من الخصائص الحتميّة لرسل السماء؛ ويبدو أن ليس هناک نحلة أو فرقة من المسلمين تشکّ في ضرورة عصمة الأنبياء، فالأنبياء عليهم السلام معصومون بنصّ القرآن، وهذه حقيقة أجمع عليها المتکلّمون والعلماء؛ إذ ليس هناک من يناقش في أصل العصمة وضرورتها، إنّما يمکن أن يکون لبعضهم کلام في حدّها وحدودها.

أمّا عقيدة الشيعة التي تستند إلي «النصّ» علي الإمامة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وترکّز علي أنّ الإمامة قائمة علي أساس النصوص الثابتة، فهي تؤمن بأنّ جميع خصائص رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- ما خلا النبوّة- تتجسّد في الإمام، وتواصِل حضورها في خليفته من بعده، وهي تعدّ ذلک أمراً قطعيّاً علي أساس نصوص کثيرة ودلائل عقليّة وافرة نُقّحت في مظانّها.

لقد رکّز علماء الشيعة ومتکلّموهم علي هذا الأصل إزاء بقيّة الفرق الإسلاميّة، وعدّوا هذا الموقع ضرورياً لخليفة النبيّ، وذلک في مقابل التيّارات الاُخري في الساحة الإسلاميّة من تلک التي لم تتبنّ ضرورة النصّ، علي أنّ طبيعة هذه المواقف، وتحليل خلفيّاتها التاريخيّة وبناها الفکريّة، هو أمر خارج عن نطاق هذا البحث.

لکن يحسن بنا الآن أن نتوقّف مع ملاحظة سريعة، قبل أن نواصل متابعة

[صفحه 40]

الجهود النبويّة لتشييد قواعد الإمامة العلويّة، وتثبيت إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وطبيعة النهج الذي اعتمده رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لعرض هذه الحقيقة؛ فقد استند متکلّمو الشيعة ومفسّروهم منذ القدم إلي «آية التطهير» من بين ما استندوا إليه في إثبات عصمة «الأئمّة» وطهارة «أهل البيت»، وهو استدلال متين کشف عن قوّته وإحکامه في الدراسات المختصّة بذلک. بيد أنّ ما يعنينا أمره في هذا المجال، وله صلة وثيقة، بل ضروريّة ببحثنا، هو معرفة طبيعة عرض هذه المسألة، والکيفيّة التي استند إليها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في بيانها، وهنا بالذات تکمن الملاحظة التي أحببنا المکوث عندها قليلاً.

لقد مضت علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- بعد أن تلا آية التطهير علي المسلمين- أيّام وأشهر طويلة وهو يقف إلي جوار بيت عليّ، وينادي إذا حضر وقت الصلاة: «الصلاة يا أهل البيت».[1] علي هذا ليس هناک شکّ في أنّ «أصحاب الکساء» هم مصداق «أهل البيت»، وأنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو سيّد أهل البيت وذروة السنام فيه. إنّما الذي يحظي بأهمّية أکبر بنظرنا هو ما کان يفعله الرسول في ثنايا ترکيزه علي الإعداد لقيادة المستقبل، وکجزء من برنامجه لإعلان الإمامة التي تخلفه، إلي جوار تأکيده علي التصريح بطهارة أهل البيت وعصمتهم، وحتي بعد إعلان هذه الفضيلة راح يکرّر علي الدوام قوله صلي الله عليه و آله: «أنا حرب لمن حاربکم، وسلم لمن سالمکم»،[2] فماذا يعني هذا التکرار، وما هو مغزاه؟

يبدو أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله کشف للاُمّة- من خلال تفسيره النافذ البصير لقوله سبحانه: «وَ مَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَکَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي

[صفحه 41]

الْقُرْءَانِ»-[3] عن وجود اُسرة ستنقضّ علي المجتمع الإسلامي، وتسومه الأذي والعذاب والظلم، وبتشبيهه حرکة هذه الاُسرة بنزو القردة کشف عن هويّتها القرديّة، وحذّر الاُمّة من أن تترک اُمور دينها تقع في يوم من الأيّام بيد رجال هذه العشيرة، أو أن تکون قيم هذا الدين ومثله العليا لعبة بأيديهم يعبثون بها کيفما شاؤوا:[4] علي الجانب الآخر من المشهد، حرص رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- من خلال الترکيز علي طرح «أهل البيت» کاُناس مطهّرين، وثلّة معصومة نقيّة من المثالب والعيوب- أن يسجّل للاُمّة خطّ الإمامة المعصومة، والقيادة النزيهة للمستقبل.[5] .

وکان لآية التطهير الدور العظيم في بيان فضائل «آل اللَّه» والکشف عن مناقبهم ومنزلتهم الرفيعة، وعلي هذا الضوء يتبيّن أنّ السرّ من وراء کلّ هذه الجهود النبويّة في الکشف عن مقصود الآية وتحديد مرادها، وکذلک ما بذله الأئمّة عليهم السلام علي هذا الصعيد، وأيضاً ما قام به الاُمويّون في المقابل ومفسّروا البلاط من سعي هائل لصرف الآية عن «آل اللَّه» أو إشراک الآخرين معهم في هذه الفضيلة علي

[صفحه 42]

أقلّ تقدير، إنّما يکمن في مفهومها الرفيع، وما تنطوي عليه من دلالة قاطعة علي طهارة الإمام أميرالمؤمنين وعصمته، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة. ولم تکن هذه الآية وحدها في الميدان، فبالإضافة إلي آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في إبلاغها وتطبيقها علي أهل البيت عليهم السلام، توالت إلي جوارها روايات کثيرة نعت فيها النبيّ عليّ بن أبي طالب بالصدق والطهارة والنقاء والتزام الحقّ واستقامة السلوک وطُهر الفطرة، ثمّ توّج ذلک کلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عدل القرآن، ومعيار الحقّ، والميزان الذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وبين الضلالة والصواب، وهو فصل الخطاب. وفي ذلک دلالة قاطعة علي أنّ من ينبغي أن يکون الاُسوة والإمام، والقائد والمنار، والزعيم والمولي هو عليّ بن أبي طالب لا غير.

ثمّ انظروا وتأمّلوا في قوله صلي الله عليه و آله: «عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ»، «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ»، «عليّ علي الحقّ؛ من اتّبعه اتّبع الحقّ، ومن ترکه ترک الحقّ»، «عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ».

ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه، يقف في أعلي ذري الاستقامة والصلاح، لا يعرف غير الحقّ والصواب. إنّ عليّاً ليحمل علي جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه «العصمة»، ومن ثمّ ستکون الاُمّة في أمان من نفسها، وسلامة من دينها وهي تهتدي بهدي عليّ، وتقتدي به اُسوة ومناراً.

لقد توفّر هذا الفصل علي بيان هذه الإشارات تفصيلاً من خلال النصوص الکثيره التي رصدها.[6] .

[صفحه 43]



صفحه 40، 41، 42، 43.





  1. أهل البيت في آية التطهير: 40 تا 45.
  2. لمزيد الاطّلاع علي صيغ الحديث وطرقه راجع: أهل البيت في الکتاب والسنّة: 165.
  3. الإسراء: 60.
  4. لمزيد الاطّلاع علي تفسير الآية وتحذير النبيّ صلي الله عليه و آله راجع: شرح نهج البلاغة: 218:9، حيث نقل ابن أبي الحديد ذلک عن المفسّرين، وقد ذکر في ج 175:15: أنّه لا خلاف بين أحد في أنّه تعالي وتبارک أراد بها بني اُميّة. وتاريخ الطبري: 58:10 والنزاع والتخاصم: 79 وتفسير القرطبي: 286:10 وفتح القدير: 239:3 والدرّ المنثور: 310:5 وتفسير نورالثقلين: 179:3 وغير ذلک.
  5. راجع: معالم الفتن: 43:1 تا 121. وقد استطاع الباحث سعيد أيّوب بذکاء يستحقّ الثناء أن يجمع الآيتين في اُفقٍ واحد، استشرف منه تحذير الاُمّة الإسلاميّة من المستقبل، وتوجيهها للتمييز بين خطّين؛ خطّ العصمة والطهارة، وخطّ الرجس والفساد، وحثّها علي التزام جانب الحذر في اختيار من يتبوّأ نظام المجتمع، کي تأمن العواقب الوخيمة.
  6. راجع: أحاديث العصمة.