بحث حول آخر قرارات النبيّ











بحث حول آخر قرارات النبيّ



اکتملت الفصول لهذا المبحث العظيم الذي حمل بين طيّاته آخر جهود رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، تلک الجهود الحافلة بالآلام والمشاقّ.

ونعود هنا لإلقاء نظرة اُخري- عطفاً علي ما سبق ذکره- لنفصح بإيجاز عن سرّ عدم تحقّق آخر جهوده صلي الله عليه و آله.

لقد بيّنتْ هذه الفصول بکلّ جلاء بأنّ الولاية العلويّة قد واکبت الرسالة المحمّديّة في الإبلاغ والتصريح، وأنّ الرسول حينما کان يصدح بالرسالة، کان يجاهر أيضاً بالحديث عن ديمومة الرسالة في قالب الولاية، ويسمّي علياً «وصيّاً» و«خليفة» و«وزيراً» و«صاحباً» و«رفيقاً». وإضافة إلي کلّ ذلک فإنّه کان يتحدّث عن القيادة المستقبليّة في المناسبات المختلفة بما يتناسب والظروف السياسيّة والثقافيّة التي کانت سائدة آنذاک. وکان يصف أميرالمؤمنين عليه السلام بأنّه الشخص الأکثر مقدرة علي قيادة الاُمّة وانتشالها من تلاطم أمواج الفتن والانحرافات. وقد أوردنا هذه الحقائق بين طيّات هذه الموسوعة

[صفحه 404]

استناداً إلي الکمّ الهائل من الروايات المنقولة من طريق الفريقين، وجري التأکيد علي أنّ ذروة ذلک الإبلاغ وقعت في «حجّة الوداع» أو بتعبير آخر في «حجّة البلاغ» وفي غدير خمّ.

وهکذا فإنّ تأکيد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي کتابة الولاية من بعده في آخر ساعات عمره المبارک، کان بلا شکّ يمثّل آخر جهوده ومساعيه لوضع حلّ يضمن سلامة المجتمع، ويقي الاُمّة من الانحراف من بعده. ومن هذا المنطلق أمر الرسول صلي الله عليه و آله- وهو في فراش المرض، وبدنه الشريف يلتهب من شدّة الحُمّي- بتجهيز جيش بقيادة الشابّ اُسامة بن زيد، وأکّد علي الخروج فيه، ولعن المتخلّفين عنه. وکان کلّما فتح عينيه سأل عن مجريات اُمور ذلک الجيش.

لکنّ العجب کلّ العجب أنّ البعض امتنع عن الالتحاق بذلک الجيش اجتهاداً منهم أمام النصّ الصريح من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله. وفضلاً عن ذلک اتّهموا الرسول الذي لم يکن يقول إلّا الحقّ، ولا يتکلّم إلّا بالوحي،[1] بأنّه يهجر؛ أي يهذي!! وهکذا بقيت کتابة الوصيّة بلا أثر، ولم تُفلح آخر جهود الرسول صلي الله عليه و آله لإعداد الأرضيّة الکفيلة بتوطيد «حاکميّة الحقّ».

ليس هناک أدني شکّ في أنّ المراد من هذه الوصيّة هو التصريح بالقيادة، والتأکيد عليها، وجلب الأنظار إلي ما جاء من إبلاغ الحقّ علي مدي عشرين سنة، ونودي به في کلّ حدب وصوب.[2] .

ولکن يبقي ثمّة سؤال؛ وهو لماذا لم يصرّ الرسول صلي الله عليه و آله علي کتابة الوصيّة رغم

[صفحه 405]

اللغط الذي أثاروه في حينها؟ ولماذا لم يبادر إلي هذا الإجراء الأساسي مسبقاً وفي أيّام صحّته؟ ولماذا لم يُقدِم علي کتابة الوصيّة رغم الاقتراح الذي قدّمه البعض بالإتيان بأدوات الکتاب، مع أنّه بقي علي قيد الحياة أربعة أيّام بعد طرح هذه القضيّة؟ ولماذا لم يُقدم علي هذا الإجراء ليحول دون وقوع الاُمّة في الضلال؛ وهو الذي يصفه القرآن بالحرص علي هداية الاُمّة؟![3] .

لعلّ التأمّل في وضع المجتمع الإسلامي حينذاک، وطبيعة ترکيب مجتمع المدينة، ومکانة الإمام عليّ عليه السلام يساعد في العثور علي جواب لهذا السؤال، لقد قام الرسول صلي الله عليه و آله بالکثير من الغزوات والمعارک في سبيل القضاء علي الشرک وإزالة العراقيل الحائلة دون إبلاغ الرسالة. وقد قُتل في تلک المعارک الکثير من قادة الشرک والاستکبار، وکان لسيف عليّ عليه السلام الدور الأکبر فيها، وهذه حقيقة لا يشکّ فيها من لديه أدني اطّلاع علي تاريخ الإسلام. وفي السنوات الأخيرة من عمر الرسول صلي الله عليه و آله التحق الکثير من ذوي اُولئک القادة بمعسکر الإسلام، إلّا أنّ الإسلام لم يدخل في قلوبهم، ولم يکونوا علي استعداد للقبول بقيادة الإمام عليّ عليه السلام، هذا من جهة.

ومن جهة اُخري فإنّ الکثير من الصحابة البارزين ما کانوا يرون- لسبب أو آخر- المصلحة في وجود الإمام عليّ عليه السلام علي رأس قيادة الاُمّة ، فلم يَرُق لهم أمر کتابة الوصيّة؛ وذلک لأنّ کتابة الوصيّة کانت تغلق عليهم باب کلّ الأعذار والتبريرات. أمّا في الظروف العادية فإنّ إقدام النبيّ صلي الله عليه و آله علي مثل هذا الإجراء يهيّئ کان الأجواء لبثّ الفرقة والتناحر في داخل المعسکر الإسلامي.

[صفحه 406]

بينما في آخر لحظات عمر الرسول صلي الله عليه و آله فإنّ الوصيّة کانت تلقي أجواءً أفضل للقبول، ومن الطبيعي أنّ القائد الذي شارف علي الرحيل من هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد في سبيل توطيد رکائز الدين، لابدّ أنّ يضع خطّة للمستقبل يضمن فيها بقاء الدين ومصلحة الاُمّة، ولو أنّ الوجوه البارزة ما کانت لتثير الاختلاف واللغط وتعکّر صفو الماء لکان الاحتمال قويّاً بأن لايجد الذين أسلموا حديثاً فرصة للمناورة.

وعلي هذا المنوال عزم الرسول صلي الله عليه و آله علي أصل الوصيّة وکتابتها من جهة، وسعي من جهة اُخري من خلال أمره بتجهيز سريّة اُسامة لإبعاد أصحاب الادّعاءات ومثيري الضجيج عن الساحة في سبيل توفير الأجواء لطرح المسألة نهائيّاً. ولا شکّ أنّ سريّة اُسامة لو کانت سارت علي وجهتها، واُبعد مثيرو الشغب عن الساحة لکانت الوصيّة قد کُتبت، والخلافة الحقّة قد استُتبّت، ولقُضي علي کل ما يُعکّر صفو الأجواء، قبل عودتهم.[4] .

ولکن لماذا لم يُصرّ النبيّ صلي الله عليه و آله علي ما طلب، ولم يستثمر الفرصة المتبقّية لکتابة الوصيّة؟

يکفي النظر إلي ما قيل حول المسألة للعثور علي الجواب، وسبب ذلک يعود- کما صرّح به مفکّر بارع-[5] إلي أنّهم جرّدوه من العصمة من الضلال بقولهم: «هجر»!! ولهذا قال لهم فيما رواه ابن عبّاس بعد أن هدأت الضجّة وقالوا له: ألا نأتيک بما طلبتَ؟ قال:

[صفحه 407]

أبَعدَ الذي قلتم؟!... أوَبَعد ماذا؟!

يا للعجب ويا للأسف!! فهل هناک موضع للکتابة بعد أن اتّهموا الرسول صلي الله عليه و آله بأنّه يهجر؟ فإذا کان قول الرسول يُتجاهل، ويوصف بالهذيان في حياته، وهو الذي نزّهه القرآن عن الخطأ بقوله: «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي»[6] فلا بدّ وأن يکون سائر کلامه موضع تشکيک من بعد وفاته. ويظهر من هذا الکلام والأجواء التي تمخّضت عنه، ما يلي:

1- إنّ المعارضين لخلافة الإمام عليّ عليه السلام کانوا جادّين في موقفهم، ولم يتوّرعوا حتي عن النيل من الرسول صلي الله عليه و آله في سبيل هذه الغاية.

2- لم يکن للکتابة تأثير حينذاک، وذلک لأنّهم کانوا سيُشيعون هذا الکلام وهذا الرأي بين الناس، ويُبطلون بذلک أيّ أثر لکتابة الصحيفة.

3- لعلّ أهمّ ما کان يتمخّض عن ذلک هو أن لا يصل الإمام إلي الخلافة، بل وکانت تضيع کلّ تعاليم الرسول، ويقع التشکيک في حجّيّتها، وتضمحلّ أوامره ونواهيه في خضمّ الأخذ والردّ. والحقيقة هي أنّ اتّهام الرسول صلي الله عليه و آله بالهذيان يعتبر من أکثر الحوادث مثاراً للحزن والألم والمرارة في تاريخ الإسلام. ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن ذلک هو کلام ابن عبّاس الذي کان يبکي ويقول:

«إنّ الرزيّة کلَّ الرزيّة ما حال بين رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وبين أن يکتب لهم ذلک الکتاب!»

والأمر المثير أنّه بعد سنتين من ذلک التاريخ حينما کان أبو بکر في اللحظات الأخيرة من حياته يعيش في حالة إغماء ولا قدرة له علي الکلام نصّب عمر بن

[صفحه 408]

الخطّاب خليفة من بعده بکتابة تلقينيّة من عثمان، غير أنّ أحداً لم يتّهمه بالهذيان![7] .

وهکذا فقد وقعت تلک الإهانة، ولم تُکتب تلک الوصيّة، ووُضعت اُسس انحراف القيادة، وحلَّ بالاُمّة ما لم يکن ينبغي أنّ يحلّ بها. وتبلور تاريخ المسلمين علي نحو آخر حافل بکثير من الاضطرابات.[8] .



صفحه 404، 405، 406، 407، 408.





  1. وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي × إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» النجم: 3 و 4.
  2. راجع: المراجعات: 354، وکلام مفتي الحنفيّة في صُوْر الحاج داود الددا، في الموضع نفسه. وراجع أيضاً: معالم الفتن: 262:1 الذي أشار إلي تنبّه بعض محدّثي السنّة إلي هذه المسألة.
  3. کما جاء في الآية 128 من سورة التوبة.
  4. انظر في هذا المجال قول عمر « فکرهنا ذلک أشدّ الکراهة » مجمع الزوائد: 14257:609:8.
  5. سعيد أيّوب في معالم الفتن: 263:1.
  6. النجم: 3 و 4.
  7. راجع: القسم الرابع: عهد عمر بن الخطّاب.
  8. راجع: النصّ والاجتهاد: 138 -125، معالم الفتن: 259:1 تا 265.