منع كتابة الوصيّة بين التبرير والنقد











منع کتابة الوصيّة بين التبرير والنقد



تعتبر واقعة عزم الرسول صلي الله عليه و آله علي کتابة الوصيّة، ومنع الخليفة الثاني إيّاه من کتابتها، واقعة غريبة ومثيرة.

فرسول اللَّه صلي الله عليه و آله الذي «مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي × إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي»[1] قد قرّر في آخر لحظات حياته بيان بعض الاُمور للاُمّة الإسلاميّة. وحتي لو کان الرسول شخصاً عاديّاً کان ينبغي تلبية طلبه ذاک، ناهيک عن أنّه أعلن بأنّ هدفه من کتابة تلک الوصيّة هو أن لا تضلّ بعده الاُمّة أبداً، وهذا هدف يطمح إليه کلّ إنسان.

المثير للدهشة في هذا المجال هو أنّ الخليفة الثاني عارض ذلک الطلب البسيط الذي ينطوي علي نتيجة کبري. وأسباب تلک المعارضة واضحة طبعاً، وصرّحت بها بعض المصادر التاريخيّة. وحتي لو لم يُشِر أيّ مصدر تاريخي إلي مراده، فإنّ أيّ باحث منصف يدرک حقيقة الأمر من خلال وضع هذه الواقعة وواقعة السقيفة، ووصول عمر إلي منصب الخلافة، إلي جانب بعضها الآخر.

[صفحه 394]

ويستفاد من المصادر التاريخيّة بأنّ هناک فئة کانت تعاضد عمر وتؤازره في موقفه ذاک. وهذا ما يدلّ علي وجود جماعة ضغط کان لها حضور حتي في المجالس الخاصّة للرسول صلي الله عليه و آله بحيث إنّ الجدل واللغط اشتدّ، وأصبحت کتابة الوصيّة غير ذات جدوي.

والأدهي من کلّ ذلک هو أنّ البعض حاول إثبات صحّة عمل الخليفة ولکن علي حساب الانتقاص من الرسول صلي الله عليه و آله، فقالوا:

«إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ لأنّه خشي أن يکتب صلي الله عليه و آله اُموراً ربّما عجزوا عنها واستحقّوا العقوبة عليها؛ لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها».[2] .

فالرسول صلي الله عليه و آله يقول لهم: اُريد أن أکتب لکم شيئاً لا تضلّوا بعده أبداً، وهؤلاء يقولون: إنّ کتابة الرسول توجب العقاب، ومعارضة عمر له دليل علي فقهه وفضله ودقيق نظره!! ونظراً لهذا التعارض الصريح بين رأي الرسول صلي الله عليه و آله ورأي الخليفة الثاني، کيف يمکن حينئذٍ تفسير هذه الإشادة بعمر؟!

والأعجب من ذلک هو التبرير الذي جاء به القاضي عيّاض لکلّ الواقعة؛ إذ أنّه حرّفها عن صورتها الأصليّة، وأوردها علي نحو مقلوب، بقوله:

«أهَجَر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ هکذا هو في صحيح مسلم وغيره: أهَجَر؟ علي نحو الاستفهام، وهو أصحّ من رواية من روي: هجر أو يهجر؛ لأنّ هذا کلّه لا يصحّ منه صلي الله عليه و آله؛ لأنّ معني هجر: هذي. وإنّما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنکار علي من قال: لا تکتبوا؛ أي لا تترکوا أمر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وتجعلوه کأمر من هجر في کلامه؛

[صفحه 395]

لأنّه صلي الله عليه و آله لا يهجر، وقول عمر: حسبنا کتاب اللَّه، ردٌّ علي من نازعه، لا علي أمر النبيّ صلي الله عليه و آله».[3] .

فهل ثمّة تحريف أوضح من هذا؟ ومن البديهي أنّ هذا النصّ لو لم يکن موجوداً في صحيحي البخاري ومسلم، لوصل إلينا بهذا الشکل المحرّف.

والبخاري وإن کان قد نقل هذا النصّ علي نحوين، إلّا أنّه أورده في الموضع الذي صرّح فيه باسم القائل بلفظة «وجع»، وهي تتضمّن معنيً أقلّ إساءة. وفي الموضع الذي حجب فيه اسم القائل أورد الکلمة القبيحة «أهجر؟»، والظاهر أنّها الکلمة الأصليّة. ولعلّ مصدر هذا الاختلاف هو ابن عبّاس الذي بيّن- بذکاء خاصّ- حقيقة الأمر کاملة، ولکن علي نحوين من النقل.



صفحه 394، 395.





  1. النجم: 3 و 4.
  2. شرح صحيح مسلم للنووي: 99:11 هامش الحديث 1637.
  3. الشفاء بتعريف حقوق المصطفي: 194:2.