نزول الآية في واقعة الغدير لإبلاغ الولاية











نزول الآية في واقعة الغدير لإبلاغ الولاية



يتّضح ممّا سلف؛ واستناداً إلي الروايات والأخبار الکثيرة التي أوردنا نصوصها، أنّ آية الإبلاغ نزلت في غدير خمّ للثامن عشر من ذي الحجّة عام 10 ه، عطفاً علي ما کان قد صرّح به النبيّ وذکره مرّات، وتأکيداً لما کان نزل علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من الوحي القرآني والبياني أکثر من مرّة.

علي أنّ من الحريّ أن نؤکّد أنّ قوله سبحانه: «مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ» يشمل کلّ ما هبط علي النبيّ صلي الله عليه و آله في هذا المجال، علي امتداد سنيّ الرسالة، سواء أکان وحياً قرآنيّاً أم وحياً بيانيّاً، وذلک في مختلف المواضع والمناسبات، وعلي صعيد کافّة التجمّعات ممّا قلّ منها أو کثُر.

والآن هذا هو النبيّ أمام صفوف متراصّة من المسلمين تبلغ عشرات الاُلوف قد قصدوا مکّة حجّاجاً من حواضر العالم الإسلامي وبواديه، وأمّوا البيت العتيق من کلّ فجٍّ عميق. وإذا صوت الوحي يأتي النبيّ من فوره، يأمره وهو في السنة

[صفحه 274]

الأخيرة من عمره الشريف وفي حجّة الوداع، أن يصدع بالولاية العلويّة، ويُعلن علي الجميع إمامة عليّ بن أبي طالب، بصراحة تامّة، ودقّة متناهية لا تحتمل أدني شائبة من تأويل، ولا تُطيق أيّ عذر أو تسويغ مهما کان.

يتوجّس النبيّ من الأمر ويخشاه، بيد أنّ خشيته لا علي نفسه وهو الذي حمل روحه علي کفّه وبذلها في سبيل الحقّ منذ أيّام الدعوة الاُولي، فقهر الصعاب وجعل المستحيل ذلولاً.

يتوجّس، لکن لا من المشرکين وقد کسر شوکتهم، وصاروا علي يديه فلولاً يائسة منهوکة.

يخاف، لکن أيضاً لامن اليهود والنصاري وقد لاذوا أمام عظمة المسلمين وجلال إهابهم، بصمت ذليل.

إنّما الذي يخشاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويتوجّس منه لهو «داخل اُمّته» وما يريبه هو هذا «النفاق» الکامن الذي أخذ موقعه بين بعض المسلمين، وما يخشاه هو هذه الشکوک التي يبثّها النفر الذين تظاهروا بالإسلام، وهم في ريب من أصل الرسالة، وما يخاف منه هو هذه التُّهَم التي تهجم علي الکلام النبوي، لترمي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالفئويّة الاُسريّة الضيّقة، ومحاباة قرابته القريبة، وتتّهمه بتحميل أهله علي الناس!

ممّا تکشف عنه لغة الآية والروايات- التي مرّت نصوصها فيما مضي- أيضاً أنّ أمين الوحي جبرائيل عليه السلام کان قد حمل في الأيّام الأخيرة عن اللَّه سبحانه، إلي أمين الرسالة صلي الله عليه و آله أهميّة هذا الإبلاغ، وأکّد علي ضرورته مرّات، وأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تحدّث عن توجّسه وخيفته؛ وها هو الآن البلاغ الأخير يقرع فؤاده: «يَأَيُّهَا

[صفحه 275]

الرَّسُولُ بَلِّغْ».[1] .

يذهب العلّامة الجليل الشيخ عبد الحسين الأميني- استناداً إلي ثلاثين مصدراً يذکرها من مصادر أهل السنّة- إلي أنّ هذه الآية الکريمة نزلت في يوم الغدير تأکيداً لوجوب الإجهار بولاية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. کما يذکر أنّ المراد من قوله: «مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ» هو ليس کّل «ما اُنزل إليک» کما ظنّ بعضٌ ذلک أو سعي لإقناع الآخرين به، بل المقصود هو بعض «ما اُنزل إليک»، وهذا البعض ليس سوي ولاية عليّ بن أبي طالب.

وإلّا هل يمکن إبلاغ جميع ما اُنزل في تلک البرهة؟ ثمّ أيّ مصداق آخر يُثير کلّ هذه الخيفة والتوجّس غير ولاية الإمام أميرالمؤمنين؟ إنّ هذا هو الواقع الذي يکشف عنه المشهد التاريخي الحقيقي ولا غير.

فيا ليت العيون تُبصر المشهد علي حقيقته، ويا ليت الآذان تُصغي إلي النداء کما ينبغي!

«يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ».

مخاطبة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بعنوان الرسالة هو الخطاب الخليق بصفة التبليغ.

إيهٍ يا نبيّ اللَّه! هل تتوجّس؟ تُساورک الخشية، وتنتابک الخِيفة؟ لکن أيّ شي ء هو شأنک غير البلاغ والدعوة؟ وهل لک مسؤوليّة اُخري غير أن تصدع

[صفحه 276]

بکلمات اللَّه وتجهر بها؟ فادعُ- إذاً- واصدع وبلّغ، إنّما بدقّةٍ متناهية، وبصيغة مؤثّرة وثابتة «وَ مَا عَلَي الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَغُ».

«مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ مِن رَّبِّکَ».

تُري ما الذي «أُنزِلَ إِلَيْکَ»؟ ولماذا لم يُصرّح به؟ إنّما کان ذلک کي يکشف عن الموقع الرفيع الذي يحظي به الأمر. وجاء بهذه الصيغة إجلالاً وتعظيماً لذلک الأمر، ولکي يُشير إلي أنّه ليس لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله من الأمر شي ء، ولا له فيه إرادة واختيار، بل مهمّته الإبلاغ وحسب.

من جهة اُخري تنمّ هذه الصيغة عن صحّة فراسة النبيّ لما کان يرتقبه من ردود فعل متوجّسة تصدر عن القوم، ممّا جعل اللَّه سبحانه يدع الأمر في هالة من الغموض والإبهام، ما برحت تُلقي ظلالها علي الموقف حتي تحين لحظة البلاغ، وينطق النبيّ بکلمة السماء.

«وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ و».

يُحار الإنسان لاُولئک الذين جنحوا في تفسير الآية إلي کلام آخر، وحين راموا الصدود عن «الحقيقة» سلکوا طريقاً واهياً لا يأوي إلي قرار!

تُري کيف يفسّرون هذه الجزء من الآية؟ وما هو المعني الذي يسوقونه إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تُصرّح به بعض التعاليم الإلهيّة من النهي عن الکتمان؟

تُري ما الذي يؤدّي کتمانه وعدم إظهاره والتأکيد عليه، ممّا نزل علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، إلي بلوغ حالة يصير فيها بنيان الرسالة في مهبّ الريح وکأنّها لم تُبلّغ!

وأيّ أمر هذا الذي إذا غاب عن الأذهان، واستطاع أعداء الرسالة وأْده والقضاء عليه في واقع المجتمع؛ يتقوّض أساس هذا الدين، وکأنّه لم يکن!

[صفحه 277]

إنّ هذه الکلمة العجيبة المدهشة لتومئ من جهة إلي ما يحظي به هذا البلاغ من شأْوٍ عظيم، کما تؤشّر من جهة اُخري إلي حقيقة تُفيد أنّه ليس ثمّة خيار أمام رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلّا تبليغ هذه الرسالة، حيث أنذره ربّه- إن هو لم يبلّغ- بتلاشي جميع الجهود، وضياع کلّ تلک الآلام والمشاقّ التي طوتها الأعوام الثلاث والعشرون من عمر الرسالة، واضمحلال ما أنفق فيها من جهد وجهاد.

«وَاللَّهُ يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ».

في عين اللَّه حراستک ، وأنت في حفظه وحماه. کأنّک- يا رسول اللَّه- تتوجّس خيفة من الأمر، وتخشي ردود فعل تلک النفوس المظلمة، وتتهيّب هياجها وما تُثيره من شحناء. لکن اعلم أنّ اللَّه علي کلّ شي ء قدير.

سيزول مکرهم جميعاً، ويغدو کهشيم تذروه الرياح، ويتلاشي کيد الناس، جميع «النَّاسِ»!

إنّ اللَّه سبحانه ليؤکّد في هذا الجزء مجدّداً علي عظمة البلاغ، کما يُشير اُخري إلي ذوي الريبة والنفوس المدلهمّة. لکن مَن هم هؤلاء؟

لم يُفصح النصّ عن شي ء، بل مضي يوعِد بزوال جميع ضروب المکر، وسقوط کلّ أحابيل الشيطان، وتلاشي المکائد جميعاً، من أيّ إنسان کان!

إنّ کلّ کلمة في الآية لتُسفِر عن عظمة هذا البلاغ وسموّه، وهي تُومئ أيضاً إلي مخاوف وهواجس، وإلي نفوس اُناسٍ موبوءة بالإحن والشحناء، مملوءة بالضغينة والغضب!

فيا ليت اُولئک المفسّرين والباحثين القرآنيّين الذين جنحوا إلي أقوال اُخَر يبصرون بتأمّل: أيّ شي ء من «مَآ أُنزِلَ» يثير إبلاغه کلّ هذه الخشية

[صفحه 278]

والهواجس؟ حتي إذا ما ظهر إلي الناس أثار الحنق والغضب، وجرّ اُناساً إلي مواجهات ومواقف؟

ثمّ لهم أن يتأمّلوا في حقيقة التاريخ الإسلامي وواقعه الصادق، ليُبصروا ما الذي أثار الإحَن والفتن؟ وأيّ شي ء أحدث کلّ هذا الهياج؟!



صفحه 274، 275، 276، 277، 278.





  1. نظراً لما کان يحظي به هذا البلاغ من أهمّية خطيرة، وما کان له من دور مصيري عظيم، فقد اُطلق علي هذه الحجّة «حجّة البلاغ». ما أروعه من اسم يستوطن النفس ويحفّز الذاکرة، لکن وا أسفاه للمؤرّخين الذين مالوا إلي محو هذا الاسم المعبّر الأخّاذ عن الذاکرة! يکتب ابن إسحاق في هذا السياق: «فکانت حجّة البلاغ، وحجّة الوداع، وذلک أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لم يحجّ بعدها» (سيرة ابن هشام: 253:4).