بحث حول آية التبليغ











بحث حول آية التبليغ



«يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ مِن رَّبِّکَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ و وَاللَّهُ يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْکَفِرِينَ»[1] .

قصد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الحجّ في العام العاشر من الهجرة. وقبل أن ينطلق تلقاء «الحرم الإلهي» أمر النبيّ صلي الله عليه و آله أن يُخبروا الجميعَ بعزمه علي الحجّ، فتطلّع المسلمون إلي البيت العتيق واجتمعوا للحجّ من کلّ فجّ عميق، فاحتشد منهم جمع عظيم.

خطب النبيّ الأقدس صلي الله عليه و آله الناس مرّات في ذلک الموسم المهيب، ثمّ راح في خطبته الطويلة يوم «عرفة» يهاجم آخر بقايا الثقافة الجاهليّة، وَيَلقي بما تبقّي من معاييرها في قاعٍ سحيق، وهو يدعو الناس إلي الثبات علي الحقّ، وبناء حياتهم وفق المعايير الإلهيّة وقِيَم السماء. کما أهاب بهم التمسّک بکتاب اللَّه وسنّة العترة النبويّة المطهّرة.

[صفحه 266]

في ذلک السفر عاد النبيّ صلي الله عليه و آله يؤکّد ما سبق أن أعلنه للاُمّة في ذلک العام بالکناية والتلميح تارة، وبصراحة ووضوح تارة اُخري، من أنّ هذه السنة التي يُمضيها بينهم هي آخر سنيّ عمره الشريف.

لهب متأجّج راح يسکن النفوس، ولوعة متفجّعة راحت تتدافع في الصدور لهذا النبأ المرتقب، حملت المسلمين علي موج من التطلّع والشوق لنبيّهم، والي أن يستفيدوا و يتعلّموا ويزدادوا من معلّمهم العظيم ما واتتهم الفرصة المتبقّية لذلک.

والنبيّ أيضاً هاجت به أشواقه، وفاضَ به حماسه الطهور لهذا الحضور المتألّق بين أفواج المسلمين في هذا الموکب المهيب، وبانتظار تبليغ کلمة هي آخر کلمات السماء وأهمّها علي الإطلاق، وإيصال رسالة هي الأکمل والأخطر.

حماس عارم من الاُمّة، وترقّب نبويّ يشوبه التوجّس لنبأ عظيم حانت لحظته أو کادت. هذا هو المشهد الذي انتهت إليه حجّة الوداع.

المسلمون يعودون بعد انتهاء الموسم، يسلک کلّ فريق السبيل الذي يؤدّي به إلي أهله وسکناه، لکن في وادي غدير خمّ، وقبل أن تفترق بهم الطريق إذا صوت السماء يقرع فؤاد النبيّ، وإذا الوحي يأتيه من فوره، ملقياً عليه الأمر بحزم: «يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ».

التأمّل في سياق الآية وما فيها من شدّة وتصميم علي الإبلاغ، وما تنطوي عليه من تحذير جادّ، کلّ ذلک لا يدع مجالاً للشکّ بأنّ الرسالة هي من الخطورة بمکان، وإنّ عمليّة الإبلاغ تقترن بالتوجّس نظراً لمحتوي الرسالة وملابسات الموقف.

[صفحه 267]

فيا تُري، ما هو الأمر الذي يتحتّم علي النبيّ صلي الله عليه و آله أن يبادر إلي إبلاغه؟ وما هي الرسالة التي يبعث إبلاغها في نفس النبيّ صلي الله عليه و آله کلّ هذه الخشية والتوجّس، وهو الصلب الذي تحمّل ما تحمّل في سبيل تبليغ کلمات اللَّه ورسالاته ولم يبالِ، وذو العزم الراسخ في سبيل إعلان الحقّ وتوسيع مداه، وهو الطود الشامخ الذي واجه الشرک وحده؟

أطبقت کلمة أعلام الشيعة محدّثين ومفسّرين ومؤرّخين ومتکلّمين- ودون أدني شائبة تردّد- أنّ الآية مرتبطة بواقعة يوم «الغدير»، وأنّ محتوي الرسالة وفحواها هو «الولاية» و«الإمامة العلويّة».

ومن ثَمّ ذهبوا إلي أنّ الآية المبارکة نزلت في الثامن عشر من ذي الحجّة عام 10 ه لتؤکّد- والمسلمون محتشدون من کلّ حدب وصوب- علي «الولاية العلويّه» للمرّة الأخيرة، في ظلّ أجواء أخّاذه مؤثّره تستعصي علي النسيان.

أمّا علماء أهل السنّة فقد تفرّقت بهم السبل، فلم تتّفق کلمتهم بشأن زمن نزول الآية، کما لم يتوحّدهم رأي بشأْن محتوي الأمر الذي يتحتّم علي النبيّ إبلاغه.

لقد رصد فخر الدين الرازي أغلب هذه الآراء، وأنهاها إلي عشرة أقوال، يتّفق القول الأخير منها مع رؤية الشيعة. لکن من اليسير أن نلحظ عدم استقامة ما ذکره، وإن يبدو وجود مؤيّدات أحياناً في کلمات الصحابة أو التابعين ذکرها غير الفخر الرازي في کتبهم.

وقبل أن نطلّ علي بعض الرؤي التي اکتنفت الآية، من الجدير أن نتناول مفهومها بشي ء من البحث والتحليل، عبر النقاط الآتية:

1- قوله سبحانه: «بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ مِن رَّبِّکَ».

[صفحه 268]

تنصّ الجملة إلي أنّ المعنيّ بالخطاب هو رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وفيها دلالة علي أنّ محتوي الرسالة يرتبط به أکثر، وقد اُمر بالإبلاغ، لکن ثَمّ حالة من التوجّس والخيفة تمنعه من الإجهار. ولقد ذکر هذه الحقيقة جميع رواة الشيعة، وأيّدتها بعض روايات العامّة.[2] .

2- قوله: «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ و».

تحتشد في هذا الجزء من الآية دِلالات تفيد أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله کان عند نزول الآية قد انتهي من تبليغ الرسالة، ووفي بحقّ هذا الدين، وأنّ هذا النبيّ حمل إلي الناس کلمات اللَّه وهدي السماء وتعاليمها، ثم هو الآن في مواجهة «أمر» بلغ من عظيم شأنه وجلال خطره، أنّه إذا لم يُعلنه تصير «الرسالة» بأتمّها عرضة للضياع، حتي لکأنّه ما بلّغ من «الرسالة» شيئاً.

هذا بدوره يُثبت صحّة الروايات التي ذهبت إلي أنّ نزول الآية جاءَ في سياق سورة «المائدة»، ومن جملة آخر الآيات المدنيّة، لا أنّها مستثناة منها، وأنّها نزلت في مکّة!

3- قوله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُکَ».

ما الذي يخشاه النبيّ؟ القتل؟! الأذي والتعذيب؟! أم اهتياج المشرکين واليهود وتفجّر سخطهم؟!

هذه سيرة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تفصح بأنّ هذا العظيم لم يعرف الخوف إلي قلبه طريقاً قط عندما يتعلّق الأمر به.

ثمّ اسمعوا وحي السماء؛ لتروا کيف تصف صلابة رُسُل اللَّه، وشموخ حمله

[صفحه 269]

الرسالات وثباتهم: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَلَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ و وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَ کَفَي بِاللَّهِ حَسِيبًا »![3] أوَ بعد هذا، يجوز أن يُنعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالخوف من البطش والأذي، أو الرهبة مِن القتل والتعذيب، وهو أفضل الرسل الکرام، وخاتم النبيّين، والحلقة الأخيرة في موکب حملة الحقّ ورسالات السماء!

هي إذاً خشيةٌ، بيد أنّها من «لون» آخر، فما کان يخشاه النبيّ هو أن لا يؤتي «البلاغ» ثماره المرجوّه، وما کان يبعث علي توجّسه هو طبيعة الجوّ الذي يمنع من نفاذ کلمة الحقّ، ويردع عن أن يؤتي «البلاغ» آثاره المطلوبة. هذا ما کان يخشاه النبيّ ويبعث في نفسه التوجّس لاغير.

4- قوله: «مِنَ النَّاسِ»

«الناس» هو لفظ مطلق بلا شکّ، والنصّ يتضمّن حفظ اللَّه سبحانه وحراسته للنبيّ صلي الله عليه و آله؛ حفظه من أحابيل اُولئک الذين ستنطلق جهودهم وهي تهدف الحؤول دون وصول «البلاغ» الي الناس، ومِن ثمَّ إفشال مهمّته.

فعلي هذا يتّضح أنّ المراد من «الکفر» في قوله: «الْقَوْمِ الْکَفِرِينَ» هو الکفر ببعض الآيات الربّانيّة، والمقصود من «عدم الهداية» في قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي» هو عدم نجاح خديعة هؤلاء، وفشل ما أبرموه للنَّيل من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في إبلاغ «ما اُنزل».

وإلّا لو کان المراد من «عدم الهداية» عدم الهداية إلي الإيمان، لتعارض ذلک مع أصل التبليغ ومهمّة الإبلاغ، ولم يتّسق مع فلسفة الدعوة والهداية بالأساس، حتي لکأنّ اللَّه سبحانه يقول: ادعو هؤلاء الي حکم اللَّه، بيد أنّني لن أهديهم!

[صفحه 270]

وهکذا يتّضح- بلا أدني شائبة- أنّ المراد في مدلول هذا الجزء من الآية أنّ جهود هؤلاء في إطفاء هذا النور ستصاب بالخيبة، وستبوء جهودهم للطعن بالنبيّ بالضلالة والخسران، وتذهب مساعيهم لإفشال هذا «البلاغ» أدراجَ الرياح، ولن يحصدوا من رمي النبيّ صلي الله عليه و آله بتهمة الانحياز إلي بيته وقرابته القريبة إلاّ الذلّة والصغار.

فالمقصود إذاً: ستسقط کلّ اُمنيات هؤلاء للحؤول دون الإجهار بهذا البلاغ، وتصير کهشيم تذروه ريح عاتية.

تحوي هذه الآية من النقاط والعظات المضيئة أکثر بکثير ممّا سطّرته هذه الکلمات. لکن مع ذلک فإنّ ما أوردناه في نقل الرؤي يهدف إلي تشييد معالم المشهد التاريخي للواقعة، وتجسيد أجواء النزول، أکثر ممّا يهدف إلي تبيين معني الآية.

أمّا الآن فنمرّ علي بعض الأقوال في الآية من خلال المحورين التاليين:

1- نزول الآية أوّل البعثة، والخشية من إبلاغ الدين!

يبدو أنّ أوّل من ذهب الي ذلک- وان لم يقطع به- هو محمّد بن إدريس الشافعي، فعلي أساس ما ذکره، أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله بعد أن أتاه الوحي ونزلت عليه:

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِي خَلَقَ»، کبر ذلک عليه، وخاف التکذيب وأن يُتناول من قبل المشرکين، فنزل عليه «يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ»، وقد کان ذلک عصمة له من قِبَل اللَّه سبحانه کي يمضي علي تبليغ ما اُمر به بثبات ودون خوف.[4] .

علي أساس هذه الرؤية روي عن الحسن البصري قوله: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

[صفحه 271]

«لمّا بعثني اللَّه تعالي برسالته ضِقتُ بها ذرعاً، وعرفت أنّ من الناس من يکذّبني»[5] فأمسک عن الدعوة حتي نزلت عليه الآية.

ذکرنا فيما سلف أنّ سورة المائدة هي من بين آخر السور التي نزلت علي النبيّ صلي الله عليه و آله إن لم تکن آخرها.[6] فما الذي کان يريده اللَّه سبحانه من قوله: «بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْکَ»، ولم ينزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله شي ء بعدُ؟ وما الذي کان يخشاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويمنعه عن الإبلاغ ولمّا يواجهِ المشرکون بعدُ آيةً أو آيات من تلک التي تقضّ مضاجعهم، وتبعث فيهم النقمة والاهتياج!

إنّ هذا الذي يزعمونه لا يليق بمُبلِّغ عاديّ، وهو ليس خليق بإنسان متوسّط الحال لايزال في أوّل الطريق، أفيجوز علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلک القلب المجدول إلي السماء، الموصول باللَّه أبداً؟ وهل يتّسق مع خطاه الراسخة وتلک الارادة الصلبة التي لا تعرف الوهن!

أمّا ما ذکروه من أنّ الباعث علي نزول الآية هو ما کان من حراسة أبي طالب عمّ النبيّ لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ إذ بنزول الآية طلب النبيّ إليه أن يکفّ عن الحراسة بعد أن وعد اللَّه سبحانه بعصمته وحمايته؛[7] فإنّ فيه بالإضافة إلي ما تمّت الإشارة إليه في نقد الرؤية الاُولي، أنّه يتعارض مع الواقع التاريخي الصادق. فهذا الواقع خير دليل علي أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ظلّ يحظي بالحراسة سنوات خاصّةً في المدينة، وليس ثمة شاهد أقوي علي ذلک من وجود «اُسطوانة الحرس».

2- إخفاء بعض القرآن خوفاً من المشرکين!

[صفحه 272]

ذکروا أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله کان أيّام اقامته بمکّة يجاهر ببعض القرآن، ويُخفي بعضه إشفاقاً علي نفسه من أذي المشرکين أو اليهود، وخوفاً ممّا يمکن أن يوقعوه به!

وممّا يبعث علي الأسف أن يلتزم بعض الناس أحياناً بأقوال واهية وبآراء لا تليق کهذه. أفيجوز مثل هذا الظنّ علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ ثمّ هذه حياته التي تتفجّر بالحيويّة والحرکة، وهذه سيرته کلّها مضاء وحزم وصِدام مع مظاهر الشرک والجاهليّة، فهل تجتمع هي وهذا الظنّ الواهي؟ وهل تستحقّ حياة نبيّ اللَّه هذه الکلمات؟!

إنّ ما تضمّه تفاسير أهل السنّة ومجاميعها الروائيّة من أقوال ورؤي حيال الآية، لايتعدّي ذلک الرصد الذي قدّمه الفخر الرازي للأقوال في المسألة، وَحين نتفحّص بقيّة الأقوال التي أحصاها الرازي فهي أضعف وأکثر وهناً من الرأي الذي عرضناه قبل قليل.

أمّا آخر الأقوال فقد ذکره الفخر الرازي علي النحو الآتي: «نزلت الآية في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولمّا نزلت هذه الآية أخذه بيده، وقال: من کنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ والِ من ولاه، وعادِ من عاداه فلقيه عمر فقال: هنيئاً يا بن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولي کلّ مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن عليّ».[8] .

ثم انعطف الفخر الرازي ليقول: «واعلم أنّ هذه الروايات وإن کثرت إلّا أنّ الأولي حمله علي أنّه تعالي آمنه من مکر اليهود والنصاري، وأمَره بإظهار التبليغ

[صفحه 273]

من غير مبالاة منه بهم».[9] .

إنّ ما صرّح به الفخر الرازي من أنّ الروايات في هذا القول- الأخير- کثيرة، لهو أمر ثابت وصحيح. بَيد أنّ الذي يبعث علي الدهشة هو حال اُولئک المفسّرين والمحدّثين والمتکلّمين الذين لا ينصاعون إلي کلّ هذا الحشد من الروايات، ولا يُذعنون إليه، بل يجنحون إلي معاذير وتفسيرات لا تلتئم والواقع التاريخي، ولا تنسجم مع شخصيّة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، أو تتواءم مع سيرته الوضيئة، وتتوافق مع خطاه الراسخة في إبلاغ الحقّ.



صفحه 266، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 273.





  1. المائدة: 67.
  2. شواهد التنزيل: 248:254:1. وانظر أيضاً: القرآن والغدير.
  3. الأحزاب: 39.
  4. الاُمّ: 168:4، والنصّ طويل وقد أخذنا منه مورد الحاجة.
  5. اسباب النزول للواحدي: 402:204؛ الدرّ المنثور: 116:3 نحوه.
  6. تفسير ابن کثير: 3:3؛ التحرير والتنوير: 255:4.
  7. الدرّ المنثور: 118:3؛ المعجم الکبير: 11663:205:11.
  8. تفسير الفخر الرازي: 53:12.
  9. تفسير الفخر الرازي: 53:12.