الفرضيّة الثانية إيكال المستقبل إلي الاُمّة











الفرضيّة الثانية إيکال المستقبل إلي الاُمّة



وهي أن نؤمن بأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله لم يعيّن للاُمّة قائد المستقبل، بل عهد قيادة الرسالة والقيمومة عليها إلي الاُمّة، لکي يحدّد الجيل الطليعي من المهاجرين والأنصار طبيعة هذا المستقبل علي أساس نظام الشوري.

والسؤال: هل يمکن الإقرار بهذا التصوّر؟ وإلي أيّ مدي يتطابق مع الحقيقة؟

هناک عدد من النقاط التي تحفّ هذه الفرضية الغريبة، يمکن الإشارة لها کما يلي:

أ: لو کان النبيّ صلي الله عليه و آله قد اتّخذ من مستقبل الاُمّة والرسالة مثل هذا الموقف، لکان حريّاً به أن يقوم بعمليّة توعية للاُمّة بطبيعة نظام الشوري وحدوده ومکوّناته وضوابطه، والسبيل إلي تطبيقه وکلّ ما يمتّ إلي الموضوع بصلة، بالأخصّ وإنّ ما يزيد في أهمّية هذه العمليّة أنّ المجتمع لم يکن قد عرف- حتي ذلک الوقت- نظام الشوري، ولم تکن قد تمّت تجربته في بنية الحکم وهيکليّته، فهل من المنطقي أن نزعم أنّ النبيّ القائد صلي الله عليه و آله أحال الاُمّة في خيارها المستقبلي، وطبيعة

[صفحه 17]

القيادة التي تنتظرها، إلي اُسلوب غائم غير واضح، وغير محدّد المعالم والتفاصيل!

علي أنّ الذي يدحض هذا التصوّر ويستبعده تماماً هو موقف التيّار الذي طالب بالخلافة، ثمّ تبوّأ مقعدها؛ فکلّ الأرقام والشواهد في حياة هؤلاء تدلّ بصورة لا تقبل الشکّ أنّ أيّ واحد من هؤلاء لم يستند إلي الشوري کميراث نبوي، ولم يستدلّ علي صحّة موقفة بأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله هو الذي اختار نظام الشوري للاُمّة من بعده، وليس في حياتهم ما يُنبئ عن إيمانهم بالشوري وممارستهم لهما عمليّاً، فأبو بکر اتجّه إلي «النصب» في تعيين البديل الذي يخلفه، أمّا عمر بن الخطّاب فلم يلجأ إلي خيار الشوري السداسيّة إلّا بعد أن دفعته الضرورة لذلک، حيث لم يرَ البديل المناسب؛ وفي ذلک يقول وهو علي فراش الموت: «لو أدرکني أحد رجلين لجعلت هذا الأمر إليه، ولوثقت به؛ سالم مولي أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجرّاح،[1] ولو کان سالم حيّاً ما جعلتها شوري».[2] .

بهذا يتّضح أنّ هذه النظريّة لا تمتّ إلي واقع النبيّ صلي الله عليه و آله بصلة، بل هي ممّا اُنتج بعد ذلک بزمن، وتمّ صياغتها بمرور الوقت لتبرير ما وقع في صدر التاريخ الإسلامي وتصويبه، ومن ثمَّ فهي أقرب إلي تنظير ما بعد الوقوع![3] .

[صفحه 18]

ب: لو أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قد فکّر بطرح الشوري کخيار للمستقبل، ولو أنّه أراد إسناد المرجعيّة الفکريّة للرسالة والقيادة السياسيّة للاُمّة إلي جيل الصحابة، لتحتّم أن يعبّئ هذا الجيل تعبئة فکريّة ورساليّة مکثّفة لکي يعدّه للمهمّة التي تنتظره، بالأخصّ إذا لاحظنا أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله کان قد بشّر بسقوط تيجان کسري وقيصر، وانهيار الإمبراطوريّتين: الفارسيّة والروميّة، وأنّ رسالته ستمتدّ في الزمان والمکان من دون أن تعرف الحواجز والحدود.

فهل کان الصحابة علي مستوي من الدراية والعلم يؤهّلهم للنهوض بهذه المسؤوليّة الکبيرة؟

ما هي الحقيقة؟ وهل يمکن أن نتصوّر الصحابة علي مستوي النهوض بهذه المسؤوليّة؟ هذا سؤال خطير لاحَ لکثيرين، ولا يمکن تجاوزه ببساطة ؛ لأنّ الإغضاء عنه ينمّ عن ضرب من السذاجة واللامبالاة في الاُصول العقيديّة.

لقد کان الباحث مروان خليفات وواحداً من الذين لاح لهم هذا السؤال، فدفعه إلي البحث والتأمّل. ثمّ أثمرت جولته التي دفعته إلي النصوص الحديثيّة والتاريخيّة، وأسفرت عن نتيجة مهمّة جدّاً جديرة بالقراءة، حيث خصّص لها الفصل الثالث من الباب الثاني من کتابه. وهذه خلاصة مکثّفة لما انتهي إليه:

الصحابة يُقلّون السؤال، ولا يروون إلّا قليلاً ممّا سمعوه.

وقد بذلوا جهدهم في منع تدوين الحديث، والحؤول دون انتشاره. بالإضافة إلي أنّهم لم يتلقّوا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلّا حقائق قليلة، لانشغالاتهم الکثيرة؛ حيث صرحوا بأنفسهم أنّه کان يلهيهم الصفق بالأسواق وغيره من الأشغال، ويحول بينهم وبين حقائق السنّة.[4] .

[صفحه 19]

من النتائج التي خرج بها البحث أنّ الصحابة کانوا کثيراً ما يُخطئون في النقل؛ فهم تارة ينقلون شطراً من الحديث، وتارة يأخذون الحديث عن مخبر وينسبونه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، وثالثة ينسَون ما سمعوه وقد صرّحوا بذلک، ورابعة يخطئون في الجواب ثمّ يرجعون إلي الحقّ بتذکير الآخرين وهکذا.

کما انتهي حال الصحابة إلي أنّ مِن بينهم منافقين کما هو عليه صريح القرآن، ومنهم من ارتدّ علي عقبيه، ومنهم من يساق إلي النار کما جاء في صريح الصحيحين، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

أوَبعد هذا يقال إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قد أسند المرجعيّة الفکريّة والقيادة السياسيّة إلي هذا الجيل، وجعله القيّم علي رسالته، والمؤتمن علي الکتاب؟![5] .

علي ضوء هذا کلّه لا ينبغي أن نتردّد لحظة في أنّ اُطروحة إيکال أمر المستقبل إلي الاُمّة أو نُخبها، وقصّة إسناد المرجعيّة الفکريّة والسياسيّة إلي الصحابة، لهي اُطروحة نشأت بمرور الزمن؛ لتصويب الوقائع المُرّة التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وليس لها منشأ قط أو أساس يدلّ عليها في نصوص رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وحياته.

وبهذا تسقط الفرضيّة الثانية.

[صفحه 20]



صفحه 17، 18، 19، 20.





  1. الطبقات الکبري: 343:3.
  2. اُسدالغابة: 1892:383:2.
  3. هنا تکمن ورطة الباحثين الإسلاميّين الذين کتبوا في نظام الحکم، فبعد أن نفي هؤلاء النصّ بعد النبيّ صلي الله عليه و آله، وجنحوا إلي نظام الشوري الذي يعتقدون به، وعجزوا عن الاستناد إلي نصوص نبويّة تؤيّد اختيارهم النظري، راحوا يستشهدون باُمور لا تمتّ إلي هذه الرؤية بصلةٍ قط.

    راجع علي سبيل المثال: کتاب «النظريّات السياسيّة الإسلاميّة»و «فقه الشوري والاستشارة»، و «الشوري وأثرها في الديمقراطيّة».

  4. صحيح البخاري: 6920:2676:6.
  5. راجع: ورکبت السفينة: 189 تا 236.