المؤلف و عصره











المؤلف و عصره



ليس ثمة شک يراود من استقرأ ما کتبه مترجمو مؤلف هذه الرسالة أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان، المشهور بالشيخ الکراجکي رحمه الله برحمته الواسعة، بل و في جملة ما خلفه من تراث فکري کبير احتوي بمساحته الکثير من العلوم المختلفة بأنه بلا شک من أجلة علماء عصره، وفقهاء ومفکري دهره.

و لا غرو في ذلک، فإن ذلک الاستقراء المتعدد الجوانب يثير في ذهن المرء الاکبار و الاجلال لهذه الشخصية الجليلة التي ما زال و- رغم کل ما نذکره-غبار الغفلة عن دراستها دراسة موضوعية شاملة يلقي بضلاله الرمادية المعتمة عليها، و ذلک مما يثير الاسي في قلوب الباحثين والدارسين الدائرين حول الکيان المبارک و المعطاء لها.

و لا مغالاة فيما أقول، فإن الدراسة المتفحصة لهذه الشخصية العلمية الفذة بنتاجاتها المتعددة، و قدراتها الفکرية و العقائدية الواسعة، و الإشادة الصريحة بکل ذلک من قبل معاصريه و مؤرخي سيرته القريبين من عصره، بل و من تلاهم من رجال العلم و الادب و غيرهما، و بالمقارنة الموضوعية مع الفترة الزمنية التي عاصرها، کل ذلک يوشي بصدق ما أشرنا إليه، و ألمحنا إلي وجوده.

فالعلامة الکراجکي رحمه الله عند عده من قبل مترجميه بأنه شيخ الفقهاء و المتکلمين، و وحيد عصره، و فريد دهره في الکثير من العلوم و المعارف المختلفة کالنحو و اللغة و الطب و غيرها لم يأت هذا الأمر من خواء و فراغ قطعاَ، فمؤلفاته التي تزدان بها المکتبة الاسلامية، و التي أمست مراجع عطاء مشهودة للمتزودين من صافي علوم دوحة الرسالة المحمدية المبارکة، و معينها الذي لا ينضب، کل ذلک يحوي دلالات واضحة علي مدي المکانة العلمية له.

ثم إنه لا يمکن بحال اطلاق هذا الحکم بمعزل عن الدراسة الموضوعية

[صفحه 16]

لخصائص الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف؛- الممتدة ما بين النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الاول من القرن الخامس الهجري- والتي تعد بحق من أوضح مراحل الاحتدام الفکري والعقائدي بين مجمل المذاهب و الفرق الاسلامية و ما يحسب عليها في صراع جدلي- يمتد في احيان معينة إلي أبعد من ذلک- من أجل احتواء الساحة الاسلامية و بسط الرداء عليها، أو اقتسامها علي أقل تقدير.

بلي فما توافقت عليه الاجهزة الحاکمة طوال حقب التغييب القسري للوجود العلني الحر لمدرسة أهل البيت عليهم السلام- إلا في حدود ضيقة محصاة الانفاس-وجهدها- إي تلک الاجهزة- علي الترويج السياسي- البعيد عن الايمان العقائدي- لبعض المذاهب الاسلامية الاخري التي طرحت قبالة تلک المدرسة المبارکة. و ما يصاحب ذلک من مراهنات و مداهنات و تلاعب سمج في التقديم و التأخير بين جملة تلک المذاهب من قبل أجهزة الدولة بالارتکاز علي أصحاب الذمم المعروضة للبيع في أسواق النخاسة، و ما رافق ذلک من تزاوج حضاري بين الامم والشعوب التي انضوت تحت الرداء الاسلامي الواسع و بين المسلمين الذين دوختهم السياسات الخاطئة و المنحرفة للحکام المتوارثين لسدة الخلافة الاسلامية دون حق أو جدارة، طيلة الحکمين الاموي بشقيه، و العباسي، کل ذلک کان له عظيم الاثر في تسرب العديد من المفاهيم الشاذة والغريبة عن العقيدة الإسلامية النقية الصافية، لا سيما و العديد من تلک الشعوب التي خضعت للإسلام و سلمت له تمتلک بعدا حضارياً، و تاريخاً کبيراً، و فلسفات معقدة متشابکة هي غريبة و عسرة الفهم علي ذهنية عوام المسلمين و بسطائهم، فنشأت نتيجة ذلک جملة متعددة من الاطروحات الدخلية التي تجذرت مع الايام ليصبح لها دعاة و أتباع لا يمکن تجاهلهم بحال من الاحوال، بل و يتطلب ذلک وقفة عقائدية جدية لتشذيب العقيدة الاسلامية من هذه المداخلات الغريبة عنها، والمنافرة لها.

و لعل الحقبة الزمنية التي عاصرها المؤلف؛ و التي شهدت تمزق اشلاء

[صفحه 17]

الدولة العباسة و تبعثر أوصالها[1] کنتيجة منطقية لحالات الضعف المتوالية التي أوجدها اسلوب الحکم الخاطئ و فساد سدنته و رموزه، و استشراء ذلک في عموم أجهزته بشکل معلن غير خفي، کل ذلک أدي إلي انحسار ظل هذه الدولة المقيت، و تراخي حلقاتها التي کانت إشد إحکاماً علي الشيعة و أئمتهم و علمائهم، فکان ذلک ايذاناً بفتح أبواب الاحتدام الفکري علي مصراعيه قبالة دعاة المذاهب المختلفة و روادها و التي کانت تموج بها الساحة الاسلامية آنذاک.

و التأمل العابر لمجمل التراث الفکري و العقائدي الذي تمخضت عنه تلک الحقبة الخصبة و المعطاء يظهر بجلاء أبعاد تلک المناظرات و أشکالها المختلفة و ما تتسم به، فالجدال في مسائل الجبر و الاختيار، و القدم و الحدوث، و صفات الله تعالي، و الإمامة، و العصمة، و النص و الاختيار، و غير ذلک من المباحث التي لا يعسر علي أحد ادراکها و معرفتها، يعد السمة الغالبة للمناهج الفکرية الطاغية علي حلقات البحث و مطاوي الکتب، و التي تتطلب احاطه واسعة بالکثير من تلک العلوم من قبل المناظر و الباحث، و هذا ما وفق إليه علماء الشيعة و مفکروها بشکل واضح جلي.

حقاً لقد کانت الساحة الفکرية و حتي عصر قريب من هذا العصر- و إلي حد ما حکراً- علي فريقين متعارضين تناطحا طويلاً فيما بينهما، و اقتسما- بفعل تقديم و تأخير السلطة لا حدهما علي الآخر بين آونة و إخري لا غراض و أسباب شتي- تلک الساحة، بيد إن ما ذکرناه من حالة تراخي قبضة السلطة عن علماء الشيعة و مفکريهم، و تعاطف البويهيين الذي أحکموا قبضتهم علي بغداد آنذاک

[صفحه 18]

معهم، کان له الأثر الکبير بأن يفصحوا عن قدراتهم الفکرية قبالة مفکري المذاهب الاخري و علمائهم الذين عرف البعض منهم بباعه الطويل و قدراته الواسعة[2] فصالوا و جالوا في هذا المعترک المقدس، و أقاموا للفکر الشيعي صروحاً عظيمة کان و لا زال الخلف الصالح لهم يسترشدون بهداها، و يستضيؤون بنورها.

بلي فقد شهد ذلک العصر- الذي يمکن التعبير عنه بانه خضم فکري کبير- أسماء لا معة کبيرة لمفکري شيعة، شغلوا مساحة کبيرة من الساحة الإسلامية، و ذادوا عن النقاء الإسلامي و صفاته، و خلفوا للامة من ورائهم تراثاً عظيما مبارکا، کأمثال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي )413 -336 ه) والسيد المرتضي علي بن الحسين الموسوي المتوفي في عام )436 ه) والشيخ الطوسي محمد بن الحسن بن علي )460 -385 ه) و جعفر بن محمد الدوريستي المتوفي ما بعد عام )473 ه) و سالار بن عبدالعزيز المتوفي علي الاکثر عام )463 ه) و غيرهم.

و من ثم فان صاحب ترجمتنا هو بلا شک واحد من تلک القمم السامقة في تأريخ التراث الشيعي الکبير ابان تلک الحقبة السالفة مع من عاصره من أولئک الاعلام الکبار الذين تعرضنا لذکر بعض منهم، من الذين أقرّ القاصي و الداني بمبلغ علمهم، و سمو فضلهم، جزاهم الله تعالي عن الاسلام و أهله خير الجزاء.

[صفحه 19]


صفحه 16، 17، 18، 19.








  1. استقلت الکثير من المدن الاسلامية الکبري ابان تلک الحقبة عن الحکومة المرکزية التي لم يعد لها سوي وجود رمزي في بغداد، فقد استقلت الموصل و اطرافها بأيدي الحمدانيين، و استقل بنو بويه بفارس و الري و اصفهان و الجبل، و أما خراسان فکانت حصة السامانيين، و الاهواز و البصرة و واسط للبريدين، و البحرين للقرامطة، و طبرستان للديلم، و کرمان لمحمد بن الياس.
  2. أمثال القاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي المتوفي عام)415 ه) والباقلاني محمد بن الطيب البصري المتوفي عام )403 ه).