مقدمة لابد منها
و الصلاة و السلام علي خيرة خلق الله من الأولين و الاخرين، حبيبه و مصطفاه، و رسوله الامين الذي أخرجنا و أخرج آباءنا من الظلمات إلي النور بإذنه، و علي أهل بيته الطيبين المعصومين حجج الله علي العالمين إلي قيام يوم الدين. و بعد: فالباحث المنصف- کائناً من کان ، مع اختلاف المشارب و تعدد الالوان- لابد أن ينتابه الذهول و يعتريه الاستغراب و هو يتفحص بإمعان و تأن ما حفلت به کتب السير و مصادر الأحاديث التي يشار إليها بالبنان و تحاط بهالات من التبجيل و التقديس من روايات و أحاديث و أحداث، کيف أن أصابع التحريف و التشويه ترکت فيها آثاراً لا تخفي و شواهد لا تواري، أخذت من هذا الدين الحنيف مأخذاً کبيراُ، و فتحت لذوي المأرب المنحرفة فتحاً کبيراً. بل و من العجب العجاب أن تجد في طيات کل مبحث و کتاب من تلک الکتب جملة کبيرة من التناقضات الصريحة التي لا تخفي علي القارئ البسيط، ناهيک عن [صفحه 8] الباحث المتخصص، تعلن بصراحة عن تزيف و تحريف تناول بجرأة عجيبة الکثير من أحاديث الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم و أقوال الصحابة الناصحين، فأخذ يعمل فيها هدماً و تشويهاً. و لعل حادثة الغدير بما لها من قدسية عظيمة- کانت مرتعاً خصباً لذوي النفوس العقيمة، خضعت- و هذا لا يخفي- لأکبر عملية تزوير- قديماً و حديثاً- أرادت و بأي شکل کان أن تفرغ هذا الامر السماوي من مصداقيته و من محتواه الحقيقي، و تحمله مداً و جزراً بين التکذيب الفاضح، و التأويل المستهجن، فکانت تلک السنوات العجاف بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم- و إلي يومنا هذا- حافلة بهذه التناقضات، و مليئة بتلک المفارقات. و لعل أم المصائب أن يأتي بعد أولئک القدماء جيل من الکتاب المعاصرين يأخذ ما وجده- رغم تناقضاته و مخالفته للعقل و المنطق- و يرسله إرسال المسلمات دون تمعن و بحث، و کأن هذا الامر ما کان أمراً سماوياً و حتماً إلهياً، بل حالهم کأنه حال من حکي الله تعالي عنهم في کتابه العزيز حيث قال: (قالوا إنّا وَجَدنا آباءَنا علي اُمّةٍ و إنّا علي آثارهم مُهتدونَ).[1] . فالجناية الکبري التي کانت تستهدف الامام علي عليه السلام ما کانت وليدة اليوم و لا الأمس القريب، بقدر ما کان لها من الامتداد العميق الضارب في جذور التأريخ، و الذي کان متزامناً مع انبثاق نور الرسالة السماوية، حيث توافقت ضمائر المفسدين- و إن اختلفت مرتکزاتها- لجر الديانة الاسلامية السمحاء إلي حيث ما آلت إليه الاديان السماوية السابقة من انحراف خطير وتشويه رهيب. لأن من السذاجة بمکان أن تؤخذ کل جناية من هذه الجنايات علي حدة، و تناقش بمعزل عن غيرها، و عن الصراع الدائم بين الخير و الشر، و بين النور و الظلام، و إلا فکيف يمکن للمرء أن يتصور أن الحبل يلقي علي غاربه للمصلحين والمخلصين [صفحه 9] دون أن تشهر في وجوههم الحراب و تنصب في طرقهم الشباک، بل و اني يمکن أن يتصور أن تترک للإسلام الحنيف السبل شارعة و المسالک نافذة، يقيم دعائم الحق و يرسي جذور العدل، بلي لا يمکن تصور ذلک، و تلک حقائق لا يمکن الإغضاء عنها. و من کان علي عليه السلام؟ هل کان إلا کنفس رسول الله صلي الله عليه و آله [2] رزق علمه و فهمه، و أخذ منه ما لم يأخذه الآخرون، بل کان امتداداً حقيقياً له دون الآخرين، و هل کانت کفه عليه السلام إلا ککف رسول الله صلي الله عليه و آله في العدل سواء[3] و هل کان عليه السلام إلا مع الحق و الحق معه حيثما دار[4] . و هل کان عليه السلام لو ولي امور المسلمين- کما أراد الله و رسوله- إلا حاملاً المسلمين علي الحق، و سالکاً بهم الطريق القويم و جادة الحق[5] . بلي کان يعد من السذاحة بمکان أن يمکن علياً عليه السلام من تسنم ذروة الخلافة و امتطاء ناصيتها، لأن هذا لا يغير من الأمر شيئاً بعد رسول الله صلي الله عليه و آله، و يظهر لهم و کأنه صلي الله عليه و آله ما زال بين ظهرانيهم، يقيم دعائم التوحيد، و يقف سدّاً حائلاً أمام أحلامهم المنحرفة التي لا تنتهي عند حد معين و لا مدي معروف. و لعل الاستقراء البسيط لمجرمات بعض الامور يوضح جانباً بيناً من تلک [صفحه 10] المؤامرة الخطيرة، التي و إن اختلفت نوايا أصحابها إلا أنها تلتقي عند هدف واحد، و هو إفراغ الرسالة السماوية من محتواها الحقيقي، و دفع بالمسلمين إلي هاوية التردي و الانحطاط- کما ذکرنا- و الالتحاق برکب اليهودية و المسيحية التي أمست ثوباً مهلهلاً خرقاً يتجلبب به الأحبار و الرهبان عندما يتعاطون ملذاتهم المحرمة و شهواتهم الحيوانية. فمن الاجتهاد الباطل قبالة النص السماوي[6] ، و مروراً بالحط من مکانة الرسول صلي الله عليه و آله[7] [صفحه 11] ليس في قلبه مرض- أن تجد تلک التأويلات الممجوجة للنصوص الواضحة، و ذلک الحمل الغريب للظواهر البينة[8] . و بالرغم من أن الجميع يدرکون- بلا ادني ريب- أن الرسول صلي الله عليه و آله لا يتحدث بالأحاجي و الألغاز، و لا يقول بذلک منصف مدرک، إذن فماذا يريد صلي الله عليه و آله بحديث الثقلين المشهور[9] ؟ و ما يريد بقوله صلي الله عليه و آله لعلي عليه السلام:«أما ترضي أن تکون مني بمنزله هارون من موسي...»[10] . بل و ما يريد بقوله صلي الله عليه و آله أيضاً:«علي ولي[11] کل مؤمن بعدي»[12] ؟ بل و ما.... وما.... إلي آخره. ثم أين الجميع من قوله صلي الله عليه و آله:«من ناصب علياً الخلافة بعدي [صفحه 12] فهو کافر»[13] . و إذا کان هناک من ينفر من کلمة الحق، و تعمي عليه الحقائق، فما باله بالشواهد و قد شهد حادثة الغدير عشرات الالوف من المسلمين، کما تشهد بذلک الروايات الصحيحة في بطون الکتب[14] ، بل و اخري تنقل تهنئة الصحابة لعلي عليه السلام بأسانيد صحاح لاتعارض[15] . و حقا إن هذا الأمر لا يخفي، بالرغم من أنهم لم يألوا جهدا في طمس تلک الحقائق الناصعة المشرقة- حتي و إن تباينت الازمنة و تباعدت المسافات- و لعل من المفارقات التي تستوقف ذي العقل الفطن وقائع مشهورة نقلها العام و الخاص تعرضت للمسخ و التحريف في العديد من المصادر التاريخية و الحديثية تختص بحديث الغدير و قضية الولاية، فعدا ما ذهبوا اليه من تفسيرهم لاية الولاية و التبليغ و غيرها کما يشتهون- وجدت ان بعض المصادر التاريخية عند سردها لوقائع معينة أسقطت ما لا يوافق هواها و أثبتت ما يوافقه، مثل مناشدته عليه السلام لجماعة الشوري بعد إصابة عمر بن الخطاب حيث أسقطت عبارة «فأنشدکم بالله هل فيکم أحد قال له رسول الله: من کنت مولاه فعلي مولاه.... ليبلغ الشاهد الغائب، غيري؟»[16] . [صفحه 13] و أضاف ابن کثير في نهايته عند سرده لوصية امير المؤمنين عليه السلام عندما اصيب و طلب منه أن يوصي لمن بعده، حيث ذکر أنه عليه السلام قال: لا، و لکن أدعکم کما ترککم رسول الله صلي الله عليه و آله يعني بغير استخلاف[17] !! بل و من المفارقات العجيبة ما قراته في تاريخ بغداد[18] )381:7( عند ترجمته لأبي سعيد العدوي )3910( فبعد أن استعرض جانبا من شيوخه الذين حدث عنهم والذين حدثوا عنه، سرد حکاية له حول مروره بالبصرة علي باب عثمان بن أبي العاص، حيث نقل رؤيته لجماعة من الناس مجتمعة حول أحد الشيوخ الطاعنين في السن، و کان خراش بن عبدالله خادم أنس بن مالک، و هو يحدثهم ما سمعه من الاحاديث، و بين يديه من يکتب، قال أبو سعيد: فأخذت قلماً من يد رجل و کتبت هذه الثلاثة عشر حديثا «أسفل نعلي» انتهي. هکذا عبارة مبتورة مشوهة. غير أن الصحيح ما نقله ابن حجر في لسان الميزان )229:2( عند ترجمته للمذکور نفسه، حيث نقل عين العبارة المتقدمة- و عن الخطيب البغدادي نفسه- و لکن بشکل مغاير مختلف، حيث روي: و قال الخطيب: أخبرنا محمود بن محمد العکبري... قال أبو سعيد: فأخذت قلما من يد رجل و کتبت هذه الثلاثة عشر حديثا في «فضل عليّ»! ! و أورد قبلها جملة من هذه الروايات[19] . [صفحه 14] و أخيرا، و تجنبا لما لم يترک فيه علماؤنا الابرار جانباً أو زاوية أو باباً الا و طرقوه و أقاموا عليه الحجج البالغة و البراهين الثابتة، أعرض عن الاسترسال في هذا المبحث المهم الذي حاولت أن أدور حوله، إدراکا لجهدي المتواضع و عجزي عن الاحاطة بما لا تستغرقة المجلدات الضخمة، ناهيک عن هذه الوريقات المحدودة. [صفحه 15]
الحمد لله حمدا لا يبلغ مداه الحامدون، و لا يدرک عده الحاسبون، أحمده تعالي علي کل نعمة أدرکها أو لا أدرکها، أعلمها أولا أعلمها، تبارک و تعالي الله رب العالمين.
صفحه 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15.
اُنظر: خصائص الإمام علي عليه السلام- للنسائي-: 72:89، المناقب- للمغازلي-: 4:428. انظر: أنساب الاشراف 214:1، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 1127:81:3، و رب سائل يسأل: إذا کان ذلک قول عمر فلم جعلها بين ستة أينما دارت تصب في جعبة عثمان؟! و کذا سأله ولده عبدالله فأجاب (کما في تأريخ دمشق المذکور) قال: أکره أن أتحملها حياً وميتاً!!!. حقيقة لا تحتمل التأويل، و إن حملها الآخرون، إلا أنه هذر و تجن علي الحقيقة. انظر: سنن الترمذي 3786:662:5 و 3788:663، مسند أحمد 17:3 و 181:5، مستدرک الحاکم 109:3 و148، اُسد الغابة 12:2. انظر: انساب الاشراف 315:1، ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق 1127:81:3، تقسير الرازي 50:12، و غيرها کما هو مذکور في هوامش الرسالة المحققة و لعل السؤال الذي يتبادر إلي الأذهان عند ذلک هل کانت هذه التهنئة-ومن قبل هذه الجموع الحاشدة- لأمر بسيط کما يصوره البعض و يريد أن يقنع الاخرين به؟! لست معتقداً أن يقولة من يتأمله بإمعان. انظر: المناقب- للخوارزمي-: 278، و ما يدل عليه: الاغاني 328:12، فجاءت النقل و جعلت محل «نعم» إما«لا» أو«لا آمرکم و لا أنهاکم». و مثل ذلک في تفسير الطبري )121:9( حيث أبدلت عبارة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم التي اشار بها إلي علي عليه السلام: ان هذا اخي، و وصيي و خليفتي من بعدي، ابدلت بعبارة: ان هذا اخي، و کذا، و کذا!!