فصل و زيادة











فصل و زيادة



فأما الذين ادعوا أن رسول الله صلي الله عليه و آله إنما قصد بما قاله في أميرالمؤمنين عليه السلام يوم الغدير ان يؤکد ولاءه في الدين، و يوجب نصرته علي المسلمين، و ان ذلک علي معني قوله سبحانه: (و المؤمنين و المؤمنات بعضهم أولياء بعض)[1] و إن الذي أوردناه من البيان علي ان بلفظة «مولي» يجب أن تطابق معني ما تقدم به التقرير في الکلام، و أنه لا يسوغ حملها علي غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام، يدل علي بطلان ما ادعوه في هذا الباب، و لم يکن أميرالمؤمنين عليه السلام بخامل الذکر فيحتاج إلي أن يقف به في ذلک المقام يؤکد ولاءه علي الناس، بل قد کان مشهورا، و فضائله و مناقبه و ظهور علوّ مرتبته و جلالته قاطعا للعذر في العلم بحاله عند الخاص و العام[2] .

علي أن من ذهب في تأويل الخبر إلي معني الولاء في الدين و النصرة، فقوله داخل في قول من حمله علي الإمامة و الرئاسة، لأن إمام العالمين تجب موالاته في الدين، و تتعين نصرته علي کافة المسلمين، و ليس من حمله علي الموالاة في الدين و النصرة يدخل في قوله ما ذهبنا إليه من وجوب الإمامة، فکان المصير إلي قولنا اولي.

[صفحه 54]

و أما الذين غلطوا فقالوا: إن السبب في ما قاله رسول الله صلي الله عليه و آله يوم الغدير انما هو کلام جري بين أميرالمؤمنين و بين زيد بن حارثة، فقال علي عليه السلام لزيد: أتقول هذا و أنا مولاک؟! فقال له زيد: لست مولاي، إنما مولاي رسول الله صلي الله عليه و آله، فوقف يوم الغدير فقال: من کنت مولاه فعلي مولاه، إنکارا علي زيد، و اعلاماً له أن عليا مولاه[3] !

فإنهم قد فضحهم العلم بأن زيدا قتل مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام في أرض مؤته[4] من بلاد الشام قبل يوم غدير خم بمدة طويلة من الزمان[5] ، و غدير خم إنما کان قبل وفاة النبي صلي الله عليه و آله بنحو الثمانين يوماً، و ما حملهم علي هذا الدعوي إلا عدم معرفتهم بالسير والأخبار[6] .

و لما رأت الناصبة غلطها في هذه الدعوي رجعت عنها، وزعمت أن الکلام کان

[صفحه 55]

بين أميرالمؤمنين عليه السلام و بين اسامة بن زيد[7] ، والذي قدمناه من الحجج يبطل ما زعموه و يکذبهم فيما ادعوه، و يبطله ايضا ما نقله الفريقان من أن عمر بن الخطاب قام في يوم الغدير فقال: بخ بخ لک يا أبا الحسن، أصبحت مولاي و مولي کل مؤمن و مؤمنة[8] ، ثم مدح حسان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمن رئاسته و إمامته علي الأنام، و تصويب النبي صلي الله عليه و آله له في ذلک[9] .

ثم احتجاج أميرالمؤمنين عليه السلام به في يوم الشوري، فلو کان ما ادعاه المنتحلون حقا، لم يکن لاحتجاجه عليهم به معني، و کان لهم أن يقولوا: أي فضل لک بهذا علينا؟! و إنما سببه کذا و کذا.

و قد احتج له أميرالمؤمنين عليه السلام دفعات، و اعتده في مناقبه الشراف و کتب يفتخر به في جملة افتخاره إلي معاوية بن أبي سفيان في قوله:


و أوجب لي الولاء معا عليکم
خليلي يوم دوح غدير خم[10]

[صفحه 56]

و هذا الأمر لا لبس فيه:

و اما الذين اعتمدوا علي أن خبر الغدير لو کان موجيا للامامة لأوجبها لأمير المؤمنين عليه السلام في کل حال، إذ لم يخصصها النبي صلي الله عليه و آله بحال دون حال، و قولهم: إنه کان يجب أن يکون مستحقا لذلک في حياة رسول الله صلي الله عليه و آله، فإنهم جهلوا معني الاستخلاف و العادة المعهودة في هذا الباب.

و جوابنا ان نقول لهم: قد أوضحنا الحجة علي أن النبي صلي الله عليه و آله استخلف عليا عليه السلام في ذلک المقام، و العادة جارية فيمن يستخلف أن يخصص له الاستحقاق في الحال، و التصرف بعد الحال، ألا ترون أن الإمام اذا نص علي حال له قوم بالامر بعد، أن الأمر يجري في استحقاقه و تصرفه علي ما ذکرناه؟!

و لو قلنا: إن أميرالمؤمنين عليه السلام يستحق بهذا النص التصرف و الامر و النهي في جميع الأوقات علي العموم و الاستيعاب إلا ما استثناه الدليل- و قد استثنت الأدلة في زمان حياة رسول الله صلي الله عليه و آله الذي لا يجوز أن يکون فيه متصرف في الأمة (غيره)[11] و لا آمرناه لهم سواه- لکان هذا أيضا من صحيح الجواب.

فإن قال الخصم: إذا جاز أن تخصصوا بذلک زمانا دون زمان، فما أنکرتم أن يکون إنما يستحقها بعد عثمان؟

[صفحه 57]

قلنا له: أنکرنا ذلک من قبل ان القائلين بأنه استحقها بعد عثمان مجمعون علي انها لم تحصل له في ذلک الوقت بيوم الغدير و لا بغيره من وجوه النص عليه، و إنما حصلت له بالاختيار، و کل من أوجب له الإمامة بالنص أوجبها بعد رسول الله صلي الله عليه و آله من غير تراخ في الزمان، و الحمدلله.

حدثني القاضي أبوالحسن أسد بن ابراهيم السلمي الحراني رحمه الله قال: أخبرني أبوحفص عمر بن علي العتکي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي، قال: حدثنا حسين بن الحکم، قال: حدثنا حسن بن حسين قال: حدثنا أبوداود الطهوي، عن عبدالأعلي الثعلبي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلي، قال: قام علي عليه السلام خطيباً في الرحبة و هو يقول: «أنشد الله امرأ شهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم آخذا يدي و رفعهما إلي السماء و هو يقول: يا معشر المسلمين ألست أولي بکم من أنفسکم؟ فلما قالوا: بلي، قال: فمن کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، إلا قام فشهد بها».

فقام بضعة عشر بدريا فشهدوا بها[12] ، و کتم أقوام فدعا عليهم، فمنهم من برص، و منهم من عمي، و منهم من نزلت به بلية في الدنيا، فعرفوا بذلک حتي فارقوا الدنيا[13] .

[صفحه 58]

و مما حفظ عن قيس بن سعد بن عبادة أنه کان يقول و هو بين يدي أمير المؤمنين صلوات الله عليه و آله بصفين و معه الراية، في قطعة له أولها:


قلت لما بغي العدو علينا
حسبنا ربنا ونعم الوکيل


حسبنا ربنا الذي فتح البص
رة بالامس و الحديث يطول


و علي إمامنا و أمام
لسوانا أتي به التنزيل


يوم قال النبي: من کنت مو
لاه فهذا مولاه خطب جليل


إنما قاله النبي علي الأًم
ة حتم ما فيه قال و قيل[14] .


صفحه 54، 55، 56، 57، 58.








  1. التوبة 71:9.
  2. ذکر ابن حجر في إصابته 507:2 - بعد سرده لجانب من فضائله و مناقبه عليه السلام: «و مناقبه کثيرة، حتي قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي».

    و ليت شعري أني يذهب البغض بذوي الرؤوس الخاوية لينهجوا هذا النهج من المطل و المماراة و الالتفاف حول کلمة الحق، ألا رجعوا إلي أنفسهم فسألوها و ماذا أراد رسول الله صلي عليه و آله و سلم بذلک و قد جمع له الحجيج من بقاع الارض المختلفة بهذا الجو اللاهب والشوق العارم للعودة إلي الأهل و الخلان بعد أداء فرض الله تعالي و بعد و عثاء السفر، ألا لا مناص من الإجابة بأن الأمر أعظم و أشد مما ذهبوا إليه، بل و هل هي إلا الوصية و الخلافة التي يعرفونها کما يعرفون أبناءهم و لکنهم ينکرون حتي تکون حجة عليهم يوم القيامة حين يحق الحق و يبطل الباطل، و عندئذ يخسر المبطلون.

  3. انظر: العقد الفريد 357:5.
  4. مؤتة- بالضم ثم واو مهموزة ساکنة، و تاء مثناة من فوقها، و بعضهم لا يهمزه- قريه من قري البلقاء في حدود الشام، و قيل: مؤتة من مشارف الشام، و بها کانت تطبع السيوف و إليها تنسب المشرفية في السيوف.

    انظر: معجم البلدان 219:5.

  5. نقلت کافة کتب التاريخ و السير و الحديث بلا أي خلاف بأن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بعث بعثة إلي مؤتة في جمادي الاولي من سنة ثمان للهجرة، و استعمل عليهم زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب و عبدالله ابن رواحة، و استشهدوا هناک في تلک السنة واحد بعد الآخر.

    انظر: تأريخ الامم و الملوک- للطبري - 36:3، الکامل في التأريخ- لابن الاثير-،مروج الذهب- للمسعودي 1493:30:3، المغازي- للواقدي- 755:2، السيرة النبوية-لابن هشام- 15:4، السيرة النبوية- لابن کثير- 455:3، معجم البلدان- للحموي- 219:5.

  6. إنه لأمر غريب فعلا أن يحدث هذا الخط الفاضح، الذي يبدو مستهجنا ممن يملک أدني معرفة بشي ء من التأريخ، ناهيک بمن يتجرأ ليکتب التأريخ، و يسطر فيه الوقائع و الحقائق.

    و لا أجد لذلک تفسيرا إلا أن الله تعالي شاء أن يفضح اُولئک الذين أعماهم الحقد عن رؤية شمس الحق.

    و تالله إن الأمر ليبدو أوضح من أن يلتبس به أحد، فکتب الحديث و السنن التي نقلت هذه الواقعة تشير نصاً إلي انها کانت في حجة الوداع.

    کما ان کل کتب التأريخ نذکر أن هذه الحجة کانت في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، و هي لا تختلف أيضا في أن وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم کانت في السنة الحادية عشر، فأين هذه من تلک؟!.

  7. النهاية- لابن الأثير- 228:5، السيرة الحلبية 277:3.
  8. انظر: مسند أحمد 281:4، الفضائل- لأحمد بن حنبل-:64:111، مصنف ابن أبي شيبة 12167:78:12، تأريخ بغداد 290:8، البداية و النهاية 210:5، المناقب- للخوارزمي- 94، کفاية الطالب: 62، فرائد السمطين 38:71:1.
  9. انشد حسان بعد قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: اللهم وال من والاه....:


    يناديهم يوم الغدير نبيهم
    بخم فأسمع بالرسول مناديا


    فقال: فمن مولاکم و وليکم؟
    فقالوا ولم يبدوا هناک التعاميا


    إلهک مولانا و أنت نبينا
    و لم تلق منا في الولاية عاصيا


    فقال له: قم يا علي فأنني
    رضيتک من بعدي إماما و هاديا


    فمن کنت مولاه فهذا وليه
    فکونوا له أنصار صدق مواليا


    هناک دعا: اللهم وال وليه
    و کن للذي عادي عليا معاديا


    فقال النبي صلي الله عليه و آله و سلم: يا حسان، لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نافحت عنا بلسانک.

    انظر: کفاية الطالب: 64، المناقب- للخوارزمي-: 80 و 94، فرائد السمطين 39:72:1.

  10. ذکر العلامة سبط ابن الجوزي (ت 654ه) في تذکرة الخواص: 102- بعد ذکره کتاب معاوية إلي أميرالمؤمنين عليه السلام مفاخرا عليه ببعض العبارات- قال عليه السلام: أعَلَيَّ يفخر ابن آکلة الأکباد؟! ثم أمر عبيدالله بن أبي رافع أن يکتب جوابه من إملائه فکتب:


    محمد النبي اخي و صهري
    و حمزة سيد الشهداء عمي


    و جعفر الذي يمسي و يضحي
    يطير مع الملائکة ابن أمي


    و بنت محمد سکني و عرسي
    مسوط لحمها بدمي و لحمي


    و سبطا أحمد ولداي منها
    فمن منکم له سهم کسهمي


    سبقتکم إلي الإسلام طرا
    صغيرا ما بلغت أوان حلمي


    فأوصاني النبي لدي اختيار
    رضي منه لأمته بحکمي


    و اوجب لي الولاء معا عليکم
    خليلي يوم دوح غدير خم


    فويل ثم ويل ثم ويل
    لمن يرد القيامة و هو خصمي


    فلما وقف معاوية علي الکتاب قال: اخفوه لئلا يسمع أهل الشام.

  11. في نسخة «ف»: أمره، و في نسخة «ه»غير مقروءة، و الظاهر أن ما أثبتناه هو الصواب.
  12. حديث المناشدة تناقلته کتب الحديث و التأريخ و أرسلته أرسال المسلمات، و لست ادري ماذا يحاول أن يکتم البعض عندما يريد أن يصرف اذهان الناس عن يوم الغدير و يشير بکل صراحة إلي أن هذا اليوم هو من نتاج عقول الشيعة و تخرصاتهم! و ليت شعري ماذا يفعلون أمام هذا السيل العارم من الأحاديث الصحاح التي تحفل بها العديد من المراجع.؟!

    انُظر: مسند أحمد 84:1 و88 و336:5 ،119، أُسد الغابة 233:2 و 93:3 و 307 و 276:5 حلية الأولياء 26:5، أنساب الاشراف 169:156:1، البداية و النهاية 211 -210:5، کفاية الطالب: 63، فرائد السمطين 34:68:1، المناقب- للخوارزمي-: 95، شرح نهج البلاغة: لابن أبي لحديد- 217:19.

  13. المشهور- کما تنقله المصادر- أن ستة من الصحابة اصابتهم دعوة أميرالمؤمنين عليه السلام عند إعراضهم و امتناعهم عن الشهادة له بما شهدوه و سمعوه يوم الغدير...و هم: )1(أنس بن مالک )2( البراء بن عازب )3( جرير بن عبدالله البحلي )4( زيد بن أرقم )5( عبدالرحمن )6( يزيد بن وديعة.

    انظر: أنساب الأشراف 169:156:2، شرح نهج البلاغة- لابن أبي الحديد المعتزلي- 217:19، السيرة الحليبة 274:3.

  14. الفصول المختارة: 236.