الجواب عن السؤال الأول











الجواب عن السؤال الأول



أما الحجة علي صحة خبر الغدير، فما يطالب بها إلا متعنت، لظهوره وانتشاره، و حصول العلم لکل من سمع الأخبار به، و لا فرق بين من قال: ما الحجة علي صحة خبر الغدير؟، و هذه حاله، و بين من قال: من الحجة علي أن النبي صلي الله عليه و آله حج حجة الوداع؟ لأن ظهور الجميع و عموم العلم به بمنزلة واحدة.

و بعد:

فقد اختص هذا الخبر بما لم يشرکه فيه سائر الأخبار، فمن ذلک أن الشيعة نقلته و تواترت به، و قد نقله أيضا أصحاب السير نقل المتواترين به، يحمله خلف منهم عن سلف، و ضمنه جميعهم الکتب بغير إسناد معين، کما فعلوا في إيراد الوقايع الظاهرة والحوادث الکائنة، التي لا يحتاج في العلم بها إلي سماع الأسانيد المتصلة.

ألا تري إلي وقعة بدر و حنين و حرب الجمل و صفين، کيف لا يفتقر في العلم بصحة شي ء من ذلک إلي سماع إسناد و لا اعتبار أسماء الرجال، لظهوره المغني، و انتشاره الکافي، و نقل الناس له قرنا بعد قرن بغير إسناد معين، حتي عمت المعرفة به، و اشترک الکل في ذکره.

و قد جري خبر يوم الغدير هذا المجري، و اختلط في الذکر و النقل بما و صفنا، فلا حجة في صحته أوضح من هذا.

و من ذلک إنه قد ورد أيضا بالأسانيد المتصلة، و رواه أصحاب الحديثين[1] من الخاصة و العامة من طرق في الروايات کثيرة، فقد اجتمع فيه الحالان، و حصل له البيان[2] .

و من ذلک أن کافة العلماء قد تلقوه بالقبول، وتناولوه بالتسليم، فمن شيعيٍّ

[صفحه 40]

يحتج به في صحة النص بالامامة، و من ناصبي يتأوله و يجعله دليلا علي فضيلة و منزلة جليلة، و لم ير للمخالفين قولا مجردا في ابطاله، و لا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا کلاما في دفعه و إنکاره، فيکون جاريا مجري تأويل أخبار المشبهة و روايتها بعد الإبانة عن بطلاتها وفسادها، بل ابتدأوا بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه، و توفره علي تخريج الوجوه له توفر من قد لزمه الاقرار به، و قد کان إنکاره أروح لهم لو قدروا عليه، و جحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا أليه.

فأما ما يحکي عن (ابن)[3] أبي داود السجستاني[4] من إنکاره له، و عن الجاحظ[5]

[صفحه 41]

من طعنه في کتاب الثمانية[6] فيه، فليس بقادح في الإجماع الحاصل علي صحته، لأن القول الشاذ لو أثر في الاجماع، و کذلک الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق، لم يصح الاحتجاج بأجماع و لا ثبت التعويل علي اتفاق، علي أن السجستاني قد تنصل من نفي الخبر[7] .

فأما الجاحظ، فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة، و أقواله المتضادة المتناقضة، و تأليفاته القبيحة في اللعب و الخلاعة، و أنواع السخف و المجانة، الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل و ديانة، يمنع من الالتفات إلي ما يحکيه، و يوجب التهمة له فيما ينفرد به و يأتيه.

و أما الخوارج الذين هم أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين عليه السلام فليس يحکي عنهم صادق دفعا للخبر[8] ، و الظاهر من حالهم حملهم له علي وجه من التفضيل،

[صفحه 42]

و لم يزل القوم يقرون لأمير المؤمنين عليه السلام بالفضائل، و يسلمون له المناقب، و قد کانوا أنصاره و بعض أعوانه، و إنما دخلت الشبهة عليهم بعد الحکمين، فزعموا أنه خرج عن جميع ما کان يستحقه من الفضائل بالتحکيم، و قد قال شاعرهم:


کان علي قبل تحکيمه
جلدة بين العين و الحاجب


و لو لم يکن الخبر کالشمس وضوحا لم يحتج به أميرالمؤمنين عليه السلام يوم الشوري، حيث قال للقوم في ذلک المقام: «أنشدکم الله هل فيکم أحد أخذ رسول الله صلي الله عليه و آله بيده فقال: من کنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، غيري؟».

قالوا: اللهم لا، فأقر القوم به و لم ينکروه، و اعترفوا بصحته و لم يجحدوه [9] .

فان قال قائل: فما باله لم يذکر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله صلي الله عليه و آله للناس علي أنه أولي بهم منهم بأنفسهم؟ و لم اقتصر علي ما ذکر، و هو لا ينفع في الاستدلال عندکم ما لم يثبت التقرير المتقدم؟؟

و ما جوابکم لم قال: إن المقدمة لم تصح، و ليس لها أصل، و قد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات و هو عار منها، فما قولکم فيها؟؟

قيل له: إن خلو انشاد أميرالمؤمنين عليه السلام من ذکر المقدمة لا يدل علي نفيها أو الشک في صحتها، لأنه قررهم من بعض الخبر علي ما يقتضي الإقرار، بجميعه، اختصارا في کلامه، و غني معرفتهم بالحال عن إيراده علي کماله، و هذه عادة الناس فيما يقررون به.

و قد قررهم عليه السلام في ذلک المقام بخبر الطائر[10] فقال:«أفيکم رجل قال

[صفحه 43]

له رسول الله صلي الله عليه و آله: اللهم آبعث إلي بأحب خلقک إليک يأکل معي،غيري؟» و لم يذکر هذا الطائر.

و کذلک لما قررهم بقول النبي عليهم السلام فيه يوم ندبه لفتح خيبر و ذکر لهم بعض الکلام دون جميعه اتکالا منه علي ظهوره بينهم و اشتهاره.[11] .

فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا علي کماله، و لا سطروه في کتبهم إلا بالتقرير الذي في أوله، و کذلک رواه معظم أصحاب الحديث الذاکرين الأسانيد، و إن کان منهم آحاد قد أغفلوا ذکر المقدمة، فيحمل أن يکون ذلک تعويلا منهم علي العلم بالخبر، فذکروا بعضه لأنه عندهم مشتهر، فإن (أصحاب الحديث)[12] کثيرا ما يقولون: فلان يروي عن رسول الله صلي الله عليه و آله خبر کذا، و يذکرون بعض لفظ الخبر اختصارا.

و في الجملة: فالآحاد المتفردون بنقل بعضة لا يعارض بهم المتواترين الناقلين لجميعه علي کماله.

[صفحه 44]


صفحه 40، 41، 42، 43، 44.








  1. کذا في نسخنا، والاولي: الحديث.
  2. في نسخة «ه-» السببان.
  3. لم ترد في نسخنا، و لعله اشتباه وقع فيه النساخ.
  4. عبدالله بن سليمان الأشعث السجستاني، و يکني بأبي بکر، ولد بسجستان في سنة ثلاثين و مائتين، أبوه صاحب السنن المعروف، أخذ عن أبيه، و طاف معه کثيرا من البلدان، و حضر دروس العديد من شيوخ أبيه حتي اعتبروه من کبار الحفاظ، إلا أنه يؤخذ عليه تجراه علي الحديث نقل عن الذهبي (ت 748 ه) في سير أعلام النبلاء 118:222:13: «قال عبدالرحمن السلمي: سألت الدار قطني عن ابن أبي داود فقال: ثقة، کثير الخطأ في الکلام علي الحديث» و کذا نقل مثله في تذکرة الحفاظ 771:2.

    بل طعن فيه ابن عدي )365 -277 ه-) في الکامل في ضعفاء الرجال 1577:4 حيث قال:«سمعت علي اين عبدالله الداهري يقول: سمعت أحمد بن محمد بن عمرو بن عيسي کرکر يقول: سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سمعت أبا داود السجستاني يقول: ابني عبدالله هذا کذاب».

    و کان ابن صاعد يقول: «کفانا ما قال أبوه فيه.

    سمعت عبدالله بن محمد البغوي يقول له- و قد کتب إليه ابن داود رقعة يسأله عن لفظ حديث لجده لما قرأ رقعته-: أنت والله عندي منسلخ من العلم.

    سمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود السجستاني يقول: و من البلاء أن عبدالله يطلب القضاء» انتهي.

  5. أبوعثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، له تصانيف کثيره، أخذ عن النظام، روي عن أبي يوسف القاضي، و ثمانة بن أشرس، و روي عنه أبوالعيناء، و يموت بن المزرع.

    خبيث مطعون فيه، لا يؤخذ بأقواله و لا يعتد بآرائه، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 6333:247:3، و في سيرأعلام النبلاء 149:526:11 «قال ثعلب: ليس بثقة و لا مأمون.

    قلت: و کان من أئمة البدع. و عن الجاحظ: نسيت کنيتي ثلاثة أيام، حتي عرفني أهلي!!.

    قلت: کان ماجناً قليل الدين..ِ يظهر من شمائله أنه يختلف» إنتهي.

    و قال الحافظ ابن کثير (ت 774ه) في البداية و النهاية 19:11: «و في سنة خمس و خمسين و مائتين توفي الجاحظ المتکلم المعتزلي، و إليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه، کان شنيع المنظر سي ء المخبر، ردي ء الاعتقاد، ينسب إلي البدع و الضلالات، و ربما جاز به بعضهم إلي الانحلال، حتي قيل في مثل: يا ويح من کفره الجاحظ» إنتهي.

  6. رسالة من رسائل الجاحظ طرح فيها جملة من الآراء و المعتقدات الشاذة، نقضها أبوجعفر محمد بن عبدالله الإسکافي (ت 240ه-) و هو من أکابر علماء المعتزلة و متکلميهم حيث يندر أن تخلو کتبهم من آرائه، و يقال: إنه صيف سبعين کتابا في الکلام منها: «المقامات في مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام» و «نقض العثمانية».

    و قد نقل أبي الحديد المعتزلي جوانب متعددة من هذه الرسالة و نقضها.

    انظر: شرح نهج البلاغة 264:16 ،294 - 215:13 ،36:7.

  7. قيل: إن ابن أبي داود لم ينکر الخبر، و انما أنکر کون المسجد الذي بغدير خم متقدما، و قد حکي عنه تنصله من ذلک و التبرئ مما قذفه به محمد بن جرير الطبري.

    انظر: الشافي في الامامة 264:2.

  8. قال السيد المرتضي رفع الله في الخلد مقامه-: «اما الخوارج فما يقدر أحد علي أن يحکي عنهم دفعا لهذا الخبر، أو امتناعا من قبوله، و هذه کتبهم و مقالاتهم موجودة معروفة، و هي خالية مما ادعي، و الظاهر من أمرهم حملهم الخبر علي التفضيل و ما جري مجراه من ضروب تأويل مخالفي الشيعة، و انما آنس بعض الجهلة بهذه الدعوي علي الخوارج ما ظهر منهم فيما بعد من القول الخبيث في أميرالمؤمنين عليه السلام، فظن أن رجوعهم عن ولايته يقتضي أن يکونوا جاحدين لفضائله ومناقبه». انظر: الشافي في الامامة 264:2.
  9. انظر المناقب للخوارزمي-: 222، و شرح نهج البلاغة- لابن أبي الحديد المعتزلي- 167:6، و مناقب الامام علي عليه السلام- للمغازلي- 155:12.
  10. حديث الطائر وقصته من الشهرة و التصديق بشکل لا يخفي و قد نقلته کثير من مصادر الحديث بأسانيد و طرق مختلفة، و في کلها إقرار بأفضلية أميرالمؤمنين عليه السلام دون غيره من الصحابة.

    انظر: سنن الترمزي 3721:636:5، تأريخ بغداد 171:3 و 369:9، حلية الأولياء 339:6، الرياض النضرة 114:3، مستدرک الحاکم 130:3، المناقب - للمغازلي-: 174 -156، ترجمة الامام علي عليه السلام من تأريخ دمشق 151 -105:2، تذکرة الخواص: 44.

  11. هاتان المناشدتان بحديث الطائر و ندبه عليه السلام لفتح خيبر وردتا في سلسلة مناشداته لأصحاب الشوري بعد إصابة عمر بن الخطاب و طرحه جملة من الأصحاب قبالة أميرالمؤمنين عليه السلام بما يسمي بأصحاب الشوري.

    انظر: مناقب الامام علي- للمغازلي-: 155:112، المناقب- للخوارزمي-: 222، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي- 167:6.

  12. في نسخة «ف» الأصحاب.