الهجرة











الهجرة



وبعد ما نُقضت الصحيفة الملعونة ولم تفتَّ في عضد الدعوة، واضطرت قريش أن تسمح لبني هاشم بالدخول في رباع مکة، والإختلاط مع الناس، أصاب المرض عمَّه وکفيله أباطالب، کما أصاب زوجته الوفية خديجة عليهماالسلام، لما کانا قد لاقياه في الشعب من العنت، فماتا في السنة التالية التي سميت بعام الحزن،وفقد النبي (ص) أکبر معين وأشد رکن يعتمد عليه في الملمَّات. وعزم النبي (ص) علي الهجرة إلي المدينة المنورة، وعزم الکفار أن يقتلوه غيلة قبل أن يهاجر إليها، وانتخبوا من بينهم ثلاثين مقاتلاً مغامراً، يهجمون علي دار النبي (ص) ليلاً فيقتلونه، وينتمي کل منهم إلي بطن من قريش فيضيع دمه بين قريش جميعاً. وجاء نبأ ذلک إلي النبي (ص) فرسم خطة مسيره إلي المدينة، وذلک بان يتجه تحت جنح الظلام إلي غار ثور، ثم يتخذ طريقاً منحرفاً عن الجادة إلي المدينة، بيد أن الخطة کان يعوزها شي ء واحد، وهو أن هؤلاء الفتية من قريش إذا عرفوا خروج الرسول أول الليل، فإنهم سوف ينتشرون حول مکة بحثاً عنه، ولا محالة سوف يجدونه، وإن وجدوه قتلوه، فقرر الرسول (ص) أن يموِّه عليهم بأن ينام مکانه شخص، ليخيَّل إليهم أنه النبي، وسوف لايکتشفون الحقيقة إلاّ بعد أن يکون النبي مبتعداً عن مکة أميالاً أو يستقر في غار ثور فعلاً. ولکن من هو ذلک الذي يُقدم علي الموت علي الفراش؟. وليس في ساحة الحرب، حيث الثورة والهياج وحيث يُقاتِل فَيَقتل ويُقتل، بل الموت علي الفراش لايدافع عن نفسه، ولا تثور أعصابه، ولا يقوم بحرکة!

إن لهذه المهمة رجلاً واحداً فقط، هو ابن أبي طالب!! إنه لا يتهيَّب أبداً وَقَع الموت عليه، أو وقع هو علي الموت. وجاء إليه النبيُّ (ص) يعرض عليه أمر الهجرة، ويأمره بالمهمة، فإذا بعليٍّ (ع) وکأنه قد بُشر بملک الدنيا، يرحب بها بعد أن يطمئن إلي سلامة الرسول (ص). وينجو الرسول من أيدي المتآمرين، ويتقلب الإمام علي فراشه، وتلمع حول البيت سيوف تنتظر الفجر لتهجم علي المستلقي علي الفراش فتقطعه إرباً إرباً، وعندما اقترب الصبح، رمَوا حجراً إليه،فلم يتحرک، ثم رمَوا الثاني. وعندما رمَوا الثالث قام من مکانه، فقال قائلهم من هذا؟. إنه ابن أبي طالب، يا عليّ، اين محمد؟ فأجال عليٌّ طرفه بينهم وقال: وهل أودعتموني محمداً؟.. فأراد بعضهم أن يفتک به، ولکن منعه الآخرون، وأنجاه الله من شرّهم. وکان علي الإمام (ع) مهمة کبيرة أخري، تلک مسؤولية حمل أهل بيت النبي (ص) وضعفاء المسلمين المتخلفين في مکة إلي المدينة. وکانت مهمة شاقة حيث إن أهل مکة حينما عرفوا بغياب النبي تميَّزوا غيضاً، لما علموا بأن تخلص النبي عن أيديهم سوف يکلِّفهم کثيراً. فعزموا علي أن يمنعوا بقية أصحابه عن الالتحاق به بکل وسيلة، وراحوا يراقبونهم، مراقبة شديدة، ألاّ يفلتوا من أيديهم، وعلي رأس هؤلاء أهل النبي (ص) وعياله. وبعد مدة جمع علي (ع) أمره، وخرج- خفية- بالفواطم: فاطمة بنت (رسول الله)، وفاطمة بنت أسد (والدة الإمام)وفاطمة بنت الزبير (عمته) وبعض الضعفاء من المسلمين يريدون المدينة، وکانوا قد ابتعدوا عن مکة أميالاً، عندما علم أهل مکة بالأمر، فجهزوا سرية سريعة إلي الرکب لإعادته قسراً إلي مکة، وکانت السرية بقيادة جناح، مولي حارث بن أمية. فجاءت حتي إذا بلغت الرکب، التفت إليهم علي (ع) فحمل عليه جناح بسيفه فأسرع علي (ع) وأخذ السيف من يده، وضربه ضربة فأرداه قتيلاً، واستسلم سائر الافراد لما رأوا من شجاعة علي (ع) وقوة بأسه، فترکهم الإمام، وحث راحلته إلي المدينة.