الفتي المبارك











الفتي المبارک



ولم يزل يدرج ويترعرع متميزاً بين أترابه، في أعماله، وأقواله، ففي ذات يوم، وکان له آنذاک سنوات قلائل.. وکان يلعب مع أترابه، إذ ينزلق أحد الأطفال بجانب بئر کانت هناک.. وقبل أن يسقط فيها يلحقه علي (ع) فيأخذ منه عضواً، فيعلق رأس الطفل إلي الأسفل وتمسک عضوه الأعلي يد عليّ، ويصيح الأطفال، ويأتي أهل الطفل.. ويتعجبون للمنظر.. وکان يسمّي عليٌّ- مبارکاً- فقالت والدة الطفل:أيها الناس أترون مبارکاً، کيف أنقذ ولدي من الهلاک. وکانت الظروف صعبةً في مکة، وقد أصاب البلد الحرام قحط شديد، عمَّ بيت أبي طالب. فجاء النبي (ص) إلي بعض أعمامه الأثرياء، يفاوضهم في الأمر. واقترح أن يتکفلوا أبناء عمه.

فلما عرضوا عليه قال: أبقوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم. فأخذ کل من العباس وحمزة عمّا النبيِّ وهاله بنت عبدالمطلب عمته، واحداً من أبناء أبي طالب، وبقي علي (ع) فإذا بالنبي يستدعيه ليکون له صاحباً، فيغمره البشر، ويأوي إليه کما يأوي الفصيل إلي أُمه. إن عليّاً الذي فتح عينيه- أول ما فتحهما- علي ملامح النبي (ص)، وظل مغموراً ببرکاته أيام صغره. إن عليّاً الذي رأي في محمد (ص) الحب والحنان، وکل خصال الخير والجمال، لابد أن يأوي إليه ويسارع إلي قبول کفالته له، ويفيض فرحاً بذلک وابتهاجاً. أخذ علي، يتبع کفيله وحبيبه النبيَّ محمداً (ص) ويطمئن إليه بکل قلبه، ويقلده في کل عمل!

وذهب النبي (ص) يغدق علي ابن عمِّه کل ما أفاءت إليه رحمة الله، من آداب حِسان وخُلق کريم!.. ولم يزل عليٌّ يري النبي (ص) دائم التفکير يقلّب وجهه في السماء يلتمس من ربه نوراً. في تلک الأيام التي کان يتعبد النبي في غار حراء، کان علي يتدبر في عبادته، ويفکر فيها فيفهم معني العبادة ومغزاها، ويؤمن بمن يعبده ويهتدي إليه بفطرته النقية التي لم يتسرب إليها الشک أبداً! إن عليّاً (ع) أوتي من النبوغ والذکاء ما يؤهله لکل ما کان النبي (ص) مؤهلاً له. ومن الخطأ أن نحدد أول وقت آمن فيه، فلقد کان مؤمناً بفطرته ولا يصح لنا ان نقرن إيمانه بزمان دون زمان- هکذا عبر النبي- ذات مرة إذ سأله رجل من المسلمين عن أول وقت آمن فيه الإمام علي فقال: إنه لم يکن کافراً حتي يؤمن، کما أنه نفسه بيّن ذلک حين أکد أنه لم يکن مسبوقاً بالشرک. وعندما هبط الوحي علي قلب محمد (ص) وجاء النبيُّ إلي الإمام يخبره، ينفتح قلبه علي أمر موعود، وحقيقة منتظرة، ذلک اليوم کان عمر الإمام عشر سنوات، ولم يکن يعرف إنسانٌ طيب يمتاز عليه من الآخرين، بل کانت فيه کل معاني الفضيلة والسمو، صدقه، أمانته، بره بالخلق، إحسانه، صلته للرحم وغير ذلک..أجل لم يکن هناک من يمتاز عليه غير محمد بن عبدالله (ص) البر الکريم، فيکف لايصدقه وکيف لا يتبعه. وذات يوم دعاه النبي إلي الصلاة، فقام عليه السلام يتعلم قواعدها ويتوجّه إلي المسجد الأقصي حيث القبلة الأولي للمسلمين.. فيصلي بصلاة النبي، وتصلي وراءهما خديجة زوجة الرسول. فهؤلاء ثلاثة ليس لهم الآن نظير علي الأرض، يبتهلون إلي الله برکعات، يرتلون من آي الذکر الحکيم، ما يزيدهم هدي، ويملأ شعورهم إيماناً واطمئناناً. لقد تشکلت الآن أول خلية حيّة، بين ملايين الخلايا الميتة في المجتمع البشري. وإنها تسعي لکي تزيد نفسها حجما وقوة، وتبعث الحياة- بإذن الله- إلي سائر الخلايا. ومن هذا العقد من حياة علي (ع) يبتدئ عهده مع الجهاد والتضحية، لقد انتقل من بيت کفيله إلي بيت والده من سنتين، بيد أنه لايزال يقضي غالب أوقاته في بيت خديجة قريباً من الرسول (ص) ليرفع له کل يوم علماً في المعارف والآداب، فيتَّبعه. وظل الإسلام يتخذ من هذه الأنفس المبارکة-أنفس محمد وعلي وخديجة- أولي قواعده وأزکاها.. حتي اجتمع إليه رجال ونساء يتحدون بالإسلام الوضع الفاسد. وظل دعاة الإسلام يبذلون في سبيل الدعوة طاقاتهم ودمائهم، حتي نمت شجرة الإسلام، وجاء الوحي يأمر النبي بأن يصدع بما يؤمر وينذر عشيرته الأقربين وإظهارها للناس أجمعين. فأمر النبي عليّاً (ع) أن يهيئ طعاماً ويدعو بني هاشم إلي بيته. واجتمعوا إليه يقودهم أبوطالب سيدهم ووالي أمورهم. فلما طعموا ورأوا أن قصعة الثريد، التي أکلوا منها لم ينقص منها شي ء وعجبوا، وجاء النبي يکلمهم بشأن الدعوة راح عمه أبولهب، يبعث کلماته الساخرة!!

إن أبالهب کان من ألد أعداء الإسلام، مع أنه کان من أقرب الناس رحماً بالنبي (ص) ولم ينزل في القرآن آية يذکر فرداً من معاصري النبي بالسوء غير ما نزل في حق أبي لهب، وفي سورة کاملة تُبتدأ بقول شديد: (تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد: 1) وقد کان أول المستهزئين بالرسول، ذلک النهار، حيث قال بين فتيان بني هاشم الذين کانوا زهاء أربعين رجلاً، قال: لشد ما سحرکم صاحبکم، أي ما أعجبه رجلاً قد سحرکم. فتفرق القوم ولم يکلمهم الرسول (ص). فلما کان من غد استضافهم علي (ع) مرة أخري فجاؤوا وأکلوا وشربوا، وقبل أن يتکلم أبولهب، ابتدأهم الرسول قائلاً: «يا بني عبدالمطلب! إني- والله- ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتکم به. إنِّي قَد جئتکم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله تبارک وتعالي أن أدعوکم، فأيکم يؤازرني علي أمري، علي أن يکون أخي ووصيي وخليفتي فيکم؟». فأحجم القوم جميعاً، إلاّ علياً، وکان ذلک اليوم- کما يصف نفسه- أحدثهم سنّاً، وأرمضهم[1] عيناً وأعظمهم بطناً، وأحمشهم[2] ساقاً فقال: «أنا يا نبي الله أکون وزيرک عليه».

فأخذ برقبته ثم قال: «فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحکون ويقولون لأبي طالب: قد أمرک أن تسمع لعليِّ وتطيع. وظلت هذه الدعوة تتراوح بين علي (ع) وخديجة (ع) ثلاث سنوات، وکان النبي يصلي بهم في خفاء، ويؤدي بهم مناسک الحج علي سنّة الإسلام، حنيفاً بها عما کان يأتيه أهل الجاهلية. فلقد أُثر عن عبدالله بن مسعود قوله: إن أول شي ء علمته من أمر رسول الله (ص) قدمت مکة في عمومة لي، فارشدونا إلي العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلي مَن ثَمَّ[3] فجلسنا إليه فبينما نحن عنده، إذ أقبل رجل من باب الصفا تعلوه حمرة، وله وفرة جعدة إلي أنصاف أذنيه، أقني الأنف، برّاق الثنايا، أدعج العينين[4] کث اللحية[5] رقيق المسربة[6] شثن الکفَّين[7] حسن الوجه، معه مراهق أو محتلم تقفوه امرأة قد سترت محاسنها، حتي قصدوا نحو الحجر، فاستلمه ثم استلمه الغلام، ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفان معه. فقلنا: يا أباالفضل!. إن هذا الدِّين لم نکن نعرفه فيکم. أوَ شي ءٌ حدث؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبدالله والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد، ما علي وجه الأرض أحد يعبدالله تعالي بهذا الدِّين إلاّ هؤلاء الثلاثة. وقال عفيف الکندي: کنت امرءاً تاجراً، فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبدالمطلب، لابتاع منه بعض التجارة،- وکان امرءاً تاجراً- فوالله إني لعنده بمني إذ خرج من خباء قريب منه فنظر إلي الشمس، فلما رآها قد مالت، قام يصلِّي (قال) ثم خرجت امرأة من الخباء الذي خرج ذلک الرجل منه فقامت خلفه فصلَّت، ثم خرج غلام هيِّن راهق الْحُلم من ذلک الخباء فقام معه فصلَّي (قال) فقلت للعباس مَن هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن أخي (قال): فقلت: مَن هذه المرأة؟. قال: امرأته خديجة بنت خويلد (قال) فقلت: من هذا الفتي؟. قال: علي ابن أبي طالب ابن عمه (قال) فقلت له: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلِّي، وهو يزعم أنه نبي ولم يتَّبعه علي أمره إلاّ امرأته وابن عمه هذا الفتي، وهو يزعم أنه ستفتح عليه کنوز کسري وقيصر. ومضت علي الدعوة مدة، وعليُّ يستقيم علي الصراط السوي، ويقاوم الضغوط، ويصوغ الوحي شخصيته الفذة. ثم التف حول الدعوة رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذکر ربهم. فلما أمرهم النبي بالهجرة إلي الحبشة وأمَّر عليهم جعفراً أخا عليٍّ عليهماالسلام، قامت قيامة قريش الذين رأوا من مناوئهم- العظيم- القوة وحسن التدبير، فأخذوا يدرسون خطة أخري أشد وأقسي مما سبق، وذلک بفرض حصار إجتماعي علي بني هاشم زاعمين أنهم شذُّوا عن النظام الإجتماعي السائد. فدبروا أمر الصحيفة الملعونة، حيث أَجمعوا علي أن لايخالط النبيَّ (ص) ومن دار في أفقه من الهاشميين، وعلي رأسهم سيدهم أبوطالب، ولا يعاملهم أحدٌ أبداً.. فجمع أبوطالب أهله في شِعْبٍ له، وذبَّ عنهم بما کان لديه من طاقة وسلطان. وتلک کانت فرصة سانحة للإمام عليّ (ع)أن ينهل من نبع النبي الفيّاض، کل مکرمة وفضيلة ومعرفة، کما استطاع أيضاً أن يمارس جهاده الشاق طيلة ثلاث سنوات. ولعل هذا کان أول ميادين الجهاد التي خاضها ابن أبي طالب (ع) ولکن کان له من قبله جهاد آخر، إلاّ أنه ليس في هذا المستوي، وذلک أن النبي (ص) کان يمر بطرقات مکة فيرشقه أبناء مکة بالحجارة والحصي، بأمرٍ من أوليائهم، ولم يکن عليه الصلاة والسلام يعبأ بذلک، بيد أن علياً (ع) کان يصاحبه، فإذا أساء أحدهم إلي النبي (ص) أخذه وجدع أذنه، وکان عليّ (ع) قويّاً منذ صباه وشجاعاً، وکان کذلک مهيباً في أعين أترابه، فإذا رأوه يمشي مع النبي،قالوا لبعضهم مهلاً فإن معه القضم، أي الذي يقضم آنافهم وآذانهم.









  1. رمضت عينيه: حميت حتي کادت تحترق.
  2. حمشت الساق: دقت.
  3. لعل مراده انه کان جالساً عند جماعة هناک.
  4. أي شديد السواد مع سعتها.
  5. مجتمع الشعر: غير طويل.
  6. المسربة: الشعر وسط الصدر إلي البطن.
  7. غليظ الکفين.