حب الله تعالي فوق كل وشيجة











حب الله تعالي فوق کل وشيجة



وکان حبه الشديد لربه سبحانه يجعله فوق کل وشيجة مادية، وکل ضغط اجتماعي، وکل مصلحة دنيوية زائلة. فقد حدثنا (ع) بنفسه عن أسباب نصر الله للمسلمين. وجعل أعظمها التعالي عن علاقاتهم النسبية والتمسک بقيم الحق، فقال: «فلقد کنا مع رسول الله (ص) وإنّ القتل ليدور علي الآباء والأبناء والأخوان والقرابات، فما نزداد علي کل مصيبة وشدة إلاّ إيماناً ومضيّاً علي الحق».[1] .

ويروي التاريخ أن الإمام علي (ع) رأي يوم بدر عقيلاً أخاه وکان في معسکر الأعداء يومئذ، رآه مقيداً فصدَّ عنه، وصاح به عقيل: يا علي، أما والله لقد رأيت مکاني، ولکن عمداً تصدُّ عني. فأتي علي (ع) إلي النبي (ص) وقال: «يا رسول الله هل لک في أبي يزيد، مشدودة يده في عنقه بنسعه[2] فقال انطلق بنا إليه».[3] .

وهکذا کان موقفه من أخته أم هاني يوم فتح مکة حيث أوت رجالاً من قريش کما يروي التاريخ فلم يجرهم حتي أجارهم النبي (ص).[4] .

ومن هنا کان الإمام (ع) يعيش أبداً فوق الضغوط وکان الناس يعرفون منه ذلک، ولذلک تعاونت ضده أصحاب المصالح، وقوي الضغط الإجتماعية، کما تخبرنا عن ذلک زوجته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع): «وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه والله نکير سيفه، وشدة وطأته، ونکال وقعته، وتنمُّره في ذات الله».[5] .

لقد عرفوا أنه لايبالي، ولا يداهن فيما يرتبط بربه. وهکذا شهدت حوادث التاريخ. فحينما مد إليه عبدالرحمن ليبايعه علي کتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين رفض الإستجابة إلاّ لکتاب الله وسنّة رسوله، ولم يبال أن الخلافة بکل ما فيها من عظمة وجلال تزوي عنه. بل إن نظراته إلي الحکم کانت أبداً من خلال ما يمکن أن ينفع دينه. فهو الذي قال مرة لابن عباس وقد استعجله لاستقبال الوفود وکان مشغولاً باصلاح نعله، قال له: يابن عباس، کم تسوي هذه النعل عندکم؟ قال: درهماً أو بعض درهمٍ. قال: «لأمْرَتُکم هذه أزهدُ عندي منها، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أَدفع باطلاً». أولم يرفض إبقاء معاوية علي إمارة الشام مدة من الزمن يستقر فيها الأمر له ثم يعزله کما أشار عليه البعض، لانه کان يرفض الغدر؟.

وقد قال مرة: «وما معاوية بأدهي مني، ولکنه يغدر ويفجر، ولولا کراهية الغدر لکنت من أدهي الناس».[6] .

ويروي التاريخ أن کل الملتحقين بمعاوية ممن کان مع الإمام علي (ع) هربوا من عدالته، واستراحوا إلي محاباة معاوية ومداراته. وکذلک فقل والذين أثروا علي عهد الخليفة الثالث ومثلهم ثراء فاحشاً علي حساب المحرومين، وخشوا من محاسبة الإمام علي لهم. الذين کانت بأيديهم ثروات المسلمين، من بيت المال، وأرادوا الاستئثار بها. وکذلک الذين کانوا يتصورون المجتمع الإسلامي کالجاهلية يأکل القويُّ العزيزُ فيه الضعيفَ الذليلَ، ولم يُعجبهم شعار الإمام (ع): «الذليلُ عندي عزيز حتي آخذ الحق له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتي آخذ الحق منه».[7] .

وکذلک هرب من عدله الذين کانوا يرتکبون جرائم يستحقون عليها الحد. والذين کانوا يبحثون عن جو التسامح في دين الله، يسمح لهم ارتکاب بعض الجرائم کإقامة الحفلات الماجنة ومعاقرة الخمور. کل أولئک کانوا يتسللون إلي معاوية ويشفق عليهم الإمام (ع)، لأنهم يهربون من النور إلي الظلام، ومن العدالة الشاملة إلي مجتمع الظلم الزائل. ولکنه لم يغير سياسته من أجل استمالتهم. والتاريخ يحفل بمئات الحوادث التي تروي لنا قصة ذلک الرکن الشديد، الذي تتراجع عنه عواصف الضغط الإجتماعية، قصة ذلک الصلد الأصم الذي تتکسر عنده کل أمواج الإغراء والإرهاب.. فليجتمعوا حول معاوية، ثم يزيد ثم من يأتي من سلاطين بني أمية، وليرفعوا عقيرتهم ألف شهر، بسب عليٍّ وذريته عليهم السلام، ويتفاخرون بقتل أولاده وشيعته.. وليفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا.. فالحق أغلي..والله أکبر، وأميرالمؤمنين (ع) يصبر محتسباً ثواب ربِّه عزَّوجلَّ. ولقد قال مرة: «کنت أحسب الأمراء يظلمون الناس، فإذا الناس يظلمون الأمراء».[8] .

أجل، إن انعدام الوعي عند الناس وکثرة القوي المصلحية کانت وراء ظلمهم لأميرالمؤمنين (ع). فقد کان يريد إقامة مجتمع القانون، والناس يرغبون في الفوضي والمحاباة، وأن ينفَّذ القانونُ أبداً علي غيرهم. أما هم فالأفضل أن تمشي لهم الوساطات. لقد أخذ الإمام علي (ع) رجلاً من بني أسد في حدٍّ، فاجتمع قومه ليکلِّموا فيه، وطلبوا إلي الحسن (ع) أن يصحبهم، فقال: ائتوه فهو أعلي بکم عيناً، فدخلوا عليه وسألوه، فقال: لا تسألوني شيئاً أَملکه إلاّ أُعطيتم، فخرجوا يرون أنهم قد نجحوا ؛ فسألهم الحسن (ع) فقالوا: أتينا خير مأتِيً، وحکوا له قوله، فقال: ما کنتم فاعلين إذا جلد صاحبکم فافعلوه.. فأخرجه علي (ع) فحدَّه، ثم قال: «هذا والله لستُ أَملکه».[9] .

وقد بيَّن فلسفة ذلک في قصة أخري حيث بلغ معاوية أن شاعراً من أصحاب الإمام (ع)کان اسمه النجاشي قد هجاه. ولعل معاوية کان يعرف أنه يشرب الخمر، فدسَّ قوماً شهدوا عليه عند الإمام أنه شرب الخمر، فأخذه وحدّه. فغضب جماعة علي الإمام (ع) في ذلک- وکان بينهم طارق بن عبدالله الفهدي- فقال: يا أميرالمؤمنين مالنا نري أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العقل ومعادن الفضل سِيَّانِ في الجزاء، حتي ما کان من صنيعک بأخي الحارث- يعني النجاشي- فأوغرت صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا علي الجادة التي کنا نري أن سبيل من رکبها النار (أي اتِّباع معاوية). فقال علي (ع): (وَإِنَّهَا لَکَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَي الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45). يا أخا بني فهد!. هل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهک حُرمة من حُرم الله، فأقمنا عليه حدها زکاة له وتطهيراً؟.

يا أخا ابن فهد، إنه من أتي حدّاً فأليم[10] کان کفارته. يا أخا ابن فهد، إن الله عزَّوجلَّ يقول في کتابه العظيم: (وَلاَ يَجْرِمَنَّکُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَي اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي) (المائدة: 15).[11] .

لقد کانت نظرة الإمام (ع) إلي العدل والمساواة مستوحاة من لب الوحي وروح الرسالة، وقد انعکست علي مواقفه، وفي تأديبه لِوُلاته، فهنا يوصي عامله علي مصر مالک الأشتر فيقول له: «أَنصف الله، وأَنصف الناس من نفسک، ومن خاصة أهلک،ومن لک فيه هوي من رعيتک. فإنک إِلاَّ تفعل تَظلم، ومن ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أَرخص حُجته، وکان لله حرباً حتي يفزع ويتوب. وليس بشي ء أدعي إلي تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامةٍ علي ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد». ثم يحذره من محاباة الخاصة (وهم الأشراف وأولوا الوجاهات والوساطات) فيقول: «وليکن أحب الأمور إليک أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضي العامة».[12] .









  1. نهج البلاغة الخطبة (122).
  2. وهي عريض طويل يشد به الرحال.
  3. المصدر: (ج 41، ص 10).
  4. المصدر.
  5. سيرة الأئمة: (ج 1، ص 124).
  6. الخطبة (200) من نهج البلاغة.
  7. نهج البلاغة الخطبة (37).
  8. المصدر.
  9. المصدر.
  10. أي ارتکب ما يوجب عليه الحد فلامه الناس أو آلمه إقامة الحد عليه.
  11. المصدر: (ج 41، ص 10).
  12. نهج البلاغة (المعجم المفهرس): ص (98).