فضائله ومناقبه











فضائله ومناقبه



وکأشعَّة الشمس ملأت فضائل الإمام (ع) الآفاق، وأعطتنا ضياءً ودفئاً روحيّاً. ولقد تنافس کبار علماء المسلمين علي اختلاف مذاهبهم في سرد فضائله، حتي ليکاد السذَّج من القراء يقولون: فعلي- اذاً- أفضل الناس جميعاً جاهلين بأنه آيةُ صدقٍ لرسالة محمد (ص) ومرآة صافية تتجلي فيها صورة مربيه وسيده محمد (ص) حتي قال سلام الله عليه: «أنا عبد من عبيد محمد (ص)». بلي، إن إصرار أصحاب الرسول (ص) وأولي البصائر من التابعين والصدِّيقين من المسلمين علي نشر فضائل الإمام (ع) کان تحدياً لخط الضلال الذي تسلط علي المسلمين، واجتهد لمحو معالم الحق.. وهکذا خرجت فضائله عن إطار الإحصاء. بيد أن علينا أَلاَّ ننظر إلي فضائله بصورة منفصلة عن بعضها.. أرأيت کيف لو مزقت زهرة وبدأت تنظر إلي کل ورقة فيها وحدها؟.

إنَّنا حين نتحدث عن الزهد يخيَّل إلينا انطواء المرتاضين ورهبنة الهاربين عن الحياة.. وإذا تحدثنا عن العلم قفزت إلي أذهاننا صورة أولئک المنکبين علي أوراقهم في المکتبات، أو علي أدواتهم في المختبرات، دون ان يتحملوا المسؤولية أو يخوضوا صراعاً. وإذا ذکرنا الجود تذکرنا الملوک حين يوزعون الهدايا علي الملأ من قومهم، ليستدرجوهم إلي مؤازرتهم وليضمنوا ولاءهم. وإذا بيَّنا الشجاعة، ارتسمت أمامنا صورة أبطال الحروب، الذين دأبهم القتل ومهمتهم إراقة الدماء، وهکذا.. بيد أن عليّاً (ع) غير کل أولئک. لأنَّ صفاته تجليات لروحه الإيمانية، کالنور الواحد ينعکس علي الأشياء فيتجلي عليها ألواناً مختلفة، وهکذا نور التوحيد في ضمير الإمام (ع) ينبعث في واقعه صفةً مُثلي وآيةً عُظمي للحق. فحين يتجلي الرب سبحانه للقلب السليم فيثبِّته بالقول الثابت، ويُفيض عليه من نور عزه، يصبح صاحبه الجواد العدل، والشجاع الحنون، والعالم المسؤول، والزاهد المتصدي، والبکَّاء في ظلام الليل، والقتَّال حين يرتفع النهار.. ويقول قائلهم:


جمعت في صفاتک الأضدادُ
ولهذا عزت لک الأندادُ


ونقول إنها الصفات الحسني يتبع بعضها بعضاً.. إنها الحب والصدق والأمانة، تجمعها معرفة الله، وتنساب منها سائر فضائل الخير.. لقد عاش لله سبحانه، لأنه عرف الله وتنمَّر في ذات الله، لأنه أوتي اليقين بعظمة ربِّه. أو لم يقل (ع) عن المؤمنين وهو أميرهم: «عَظُمَ الخالقُ في أنفسهم، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعينهم». واستهان بالموت لأنه أحب لقاء ربه.. وعدل في الرعية لأنه تجاوز حواجز المادة إلي حقائق الجوهر، فأسقط کل الميزات الظاهرية، وتحدَّي الضغط الذي يدعو إليها.

وزهد في الدنيا، لأنه أبصر حقيقتها فصامت نفسه عنها قبل أن تصوم جوارحه، وطلَّقها ثلاثاً وقال لها: «يا دنيا يا دنيا!! إليک عنّي، قد طلَّقتک ثلاثاً لا رجعة فيها».[1] .

وأنهکته العبادة لأنه يلتقي هناک بحبيبه الکريم. فلم يزل ذاکراً ربه، يعيش قلبه بمناجاته. وهکذا کانت سائر فضائله روافد من نبع الإيمان والمعرفة واليقين. وها نحن نروي لک شيئاً قليلاً منها لعلنا نزداد معرفة بإمامنا سلام الله عليه، ونزداد قرباً إلي ربنا بمعرفته. فقد روي أبوالدرداء في جمع من أصحاب النبي قصته مع الإمام علي (ع)، وکيف شاهد جانباً من عبادته الليلية: عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: کنا جلوساً في مجلس، في مسجد رسول الله (ص) فتذاکرنا أعمال اهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبوالدرداء: يا قوم أَلاَ أُخبرکم بأقل القوم مالاً، وأکثرهم ورعاً، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟.قالوا: مَن؟ قال: أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع). قال: فوالله إن کان في جماعة أهل المجلس إِلاَّ مُعرض عنه بوجهه. ثم انتدَب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تکلمت بکلمة ما وافقک عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبوالدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت وليقل کل قوم منکم ما رأوا شهدت علي بن أبي طالب (ع) بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفي ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدتُه وبَعُدَ عَلَيَّ مکانُه، فقلت: لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيً وهو يقول: «إلهي کم من موبقة حلمتَ عن مقابلتها بنقمتک، وکم من جريرة تکرمت عن کشفها بکرمک! إلهي إن طال في عصيانک عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانک، ولا أنا بِرَاجٍ غير رضوانک». فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه، فاستترت له واخملت الحرکة، فرکع رکعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلي الدعاء والبکاء والبث والشکوي؛ فکان مما ناجي الله به أن قال: «إلهي أُفکِّر في عفوک فتهون عَلَيَّ خطيئتي، ثم أَذکر العظيم من أخذِک فتعظم عَلَيَّ بليَّتي». ثم قال: «آه، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه!. فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تَنفعه قبيلته؛ ولا يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء». ثم قال: «آه من نار تنضج الأکباد والکلي، آه من نار نزاعة للشوي، آه من غمرة من ملهبات لظي!».

قال: ثم أنعم في البکاء، فلم أسمع له حسّاً ولا حرکة، فقلت، غلب عليه النوم لطول السهر، أُوقظه لصلاة الفجر. قال أبوالدرداء: فأتيته فإذا هو کالخشبة الملقاة، فحرَّکته فلم يتحرک وزويته فلم ينزوِ، فقلت: «إنا لله وإنا إليه راجعون» مات والله علي بن أبي طالب (ع) قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم،فقالت فاطمة (ع): يا أباالدرداء ما کان من شأنه ومن قصته؟. فأخبرتها الخبر، فقالت: «هي والله يا أباالدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله». ثم أتوه بماء فنضحوه علي وجهه فأفاق، ونظر إليَّ وأنا أبکي، فقال: مما بکاؤک يا أباالدرداء؟. فقلت: مما أراه تُنزله بنفسک. فقال: «يا أباالدرداء فکيف ولو رأتني ودُعِيَ بي إلي الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائکة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملک الجبار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لَکنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفي عليه خافية». فقال أبوالدرداء: فوالله ما رأيت ذلک لأحد من أصحاب رسول الله (ص).[2] .

ولأن إمامنا (ع) کان أشد حبّاً لربِّه وأکثر أنساً به وشوقاً إليه، کان يحب لقاء ربه، ولا يبالي بالموت. فقد جاء في حديث أنه کان يطوف بين الصفين بصفّين في غلالة،[3] فقال الحسن (ع): ما هذا زي الحرب، فقال: يا بني إن أباک لا يبالي وقع علي الموت أو وقع الموت عليه.

وحينما علاه أشقي الآخرين بالسيف هتف عالياً: فُزْتُ وربِّ الکعبة. وقد کان (ع) يتمني الشهادة، ويکرر هذه الکلمة باستمرار. ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقه بدم!. لقد کان يعتبر الشهادة أسمي الطرق إلي الله ولقائه. فإذا وفق الله لها عبداً فتلک نعمة کبري لابدّ أن يشکره عليها. يقول الإمام (ع): لما أنزل الله سبحانه قوله: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَکُوا أَن يَقُولُواء َامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (العنکبوت: 2-1). علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (ص) بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرک الله تعالي بها؟. فقال:«يا علي، إن أمتي سيفتنون من بعدي». فقلت: يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحد حين استشهد مَن استشهد من المسلمين واخرت عني الشهادة فشق ذلک عليّ فقلت لي: «أبشر فان الشهادة من ورائک؟». فقال لي: «إن ذلک لکذلک، فکيف صبرک إذاً؟».

فقلت: «يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولکن من مواطن البشري والشکر».[4] .









  1. قصار الحکم للإمام، نهج البلاغة.
  2. موسوعة بحارالأنوار: (ج 41، ص 13).
  3. الغلالة: ثوب رقيق يلبس تحت الثوب أو تحت الدرع.
  4. المصدر: (ص 7).