تهدمت أركان الهدي











تهدمت أرکان الهدي



ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارک، تُعتبر من الليالي التي يُرجي فيها أن تکون ليلة القدر. وکان حديث الناس في تلک الليلة في کل مکان حول الحرب، بعد أن بث الإمام (ع) فيهم روح الجهاد، ودبّ إليهم النشاط والعزيمة. وفي طرف مسجد الکوفة کان يصلي جماعة من المصريين، کعادتهم في کل ليلة، قريباً منهم عند السرة کان يصلي جماعة باجتهاد. وهناک في بيت متواضع علي طرف تستضيف الإمام (ع) أبنته فتحمل إليه عند الإفطار، رغيفاً من الخبز ولبناً وشيئاً من الملح، فيأمرها برفع اللبن. ولما تناول لقمات نهض لصلواته، وبين الفينة والأخري کان يتطلع إلي السماء فيقول: هي هي الليلة التي وُعدت بها. لا کَذبت ولا کُذِّبت.. ثم يخرج إلي المسجد، ويدخله من ذات الباب الذي اجتمع خلفه أولئک الرجال. يقول الراوي: خرج عليهم علي بن أبي طالب (ع) عند الفجر،فأقبل ينادي.. الصلاة الصلاة، وبعدها رأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول: الحکم لله لا لک يا علي، ثم رأيت بريق سيف آخر، وسمعت عليّاً يقول: لا يفوتنَّکُم الرجل. وکان الأشعث قال لابن ملجم النجاة لحاجتک قبل أن يفضحک الفجر.[1] .

فمن هو الذي اشترک في المؤامرة ضد حياة قائد المسلمين؟ إنهم ثلاثة اجتمعوا في الحج وقرر کل واحد منهم اغتيال واحد من الثلاثة: معاوية، وعمرو بن العاص،والإمام (ع) فلم ينجح صاحب عمرو بن العاص، إذ کان قد استناب عنه آخر، للصلاة فقُتل، بينما وقع سيف صاحب معاوية علي فخذه وجرحه جرحاً بسيطاً.. اما ابن ملجم الذي کان قد اشتري سيفه بألف وسمَّمه بألف فقد التقي- فيما يبدو- بالمعارضة التي تنامت في الکوفة، وکان يقودها ابن الأشعث الذي بدأ يتباکي علي مصرع الخوارج، وکان قد دخل الإمام (ع) قبل فترة فاغلظ عليه لمؤامرته المستمرة ضد الإسلام، فتوعده وهدده بالفتک، فقال له الإمام: «أَبِالموت تخوِّفني وتهدِّدني؟. فوالله ما أُبالي وقعتُ علي الموت أو وقع الموتُ عَلَيَّ».[2] .

وهکذا تعاون معه في جريمته سبيب بن بجران، ووردان بن مجالد، ولعل رجالاً آخرين من جماعة ابن الأشعث کانوا مساهمين معهم. ومن خلال الأشعث التقت مصلحة الخوارج (الذين کانوا من أشد المعارضين لمعاوية) بمصالح معاوية الذي کان يخشي هجوماً صاعقاً لجند الإسلام ضده. وکان لا يني من توزيع الوعود علي الطامعين في الکوفة، للفتک بالإمام (ع). ومن هنا خاطب أبوالأسود الدؤلي معاوية بعد تنفيذ الجريمة قائلاً:


أَلاَ أَبلغْ معاوية ابنَ حربٍ
فلا قرت عيون الشامتينا


أفي شهر الصيام فجعتمونا
بخير الناس طرّاً أَجمعينا


قتلتم خير من رکب المطايا
وذلَّلها ومَن رکب السفينا


ومَن لبس النعال ومن حذاها
ومن قرأ المثاني والمئينا[3] .


وبعد تنفيذ الجريمة، حُمل الإمام (ع) إلي البيت، وأُحضر عنده ابن ملجم فقال الإمام: «النفس بالنفس، إن أنا متُّ فاقتلوه کما قتلني، وإن سلمتُ رأيت فيه رأيي. وأضاف: يا بني عبدالمطلب لا ألفينکم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين. أَلاَ لا يَقتلنَّ إلاّ قاتلي». ودخل علي الإمام (ع) أکبر أطباء الکوفة واسمه: أثير بن عمر بن هاني، فلما فحصه مليّاً قال: يا أميرالمؤمنين اعهد عهدَک، فإن عدو الله قد وصلت ضربتُه إلي أم رأسک.[4] .

ويقول الأصبغ بن نباتة: دخلتُ علي أميرالمؤمنين (ع)، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمُه واصفرَّ وجهه. فما أدري وجهه أشد صفرة أم العمامة، فاکببتُ عليه فقبلته وبکيت. فقال لي: لا تبکِ يا أصبغ فإنها- والله- الجنة. فقلت له: جَعلتُ فداک، إني أعلم- والله- أنک تصير إلي الجنة، وإنما أبکي لفقداني إياک يا أميرالمؤمنين.[5] .

وبکت عنده أم کلثوم بعد أن نعي إليها نفسه، فقال لها: «لا تؤذيني يا أم کلثوم، فإنک لو ترين ما أري، إن الملائکة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض، والنبيون يقولون: انطلق يا علي فما أمامک خير لک مما أنت فيه».[6] .

وبقي الإمام (ع) ثلاثاً تشتد حالته، حتي کان ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، في الثلث الأول منها، وعهد عهده إلي الإمام الحسن وأوصاه وأخاه الإمام الحسين عليهماالسلام، بآخر وصاياه، ثم ودع أهل بيته، واستقبل ملائکة ربه بالسلام وفارقت روحه الزکية الحياة، وصرخت بناته ونساؤه، وارتفعت الصيحة في بيته، فعلم أهل الکوفة أن أميرالمؤمنين قد قُبض، فأقبل الرجال والنساء أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة، وارتجَّت الکوفة بأهلها! وکان ذلک اليوم کيوم مات فيه رسول الله (ص). ثم غسله الإمام الحسن والإمام الحسين معاً سلام الله عليهم أجمعين، بينما کان محمد بن الحنفية يصب الماء.

وحُنِّط ببقية حنوط رسول الله، ووضعوه علي سريره، وصلَّي عليه الإمام الحسن (ع)، وحُمل في جوف الليل من تلک الليلة إلي ظهر الکوفة فدفن بالنوبة عند قائم الغرَّيين حيث مرقده الشريف الآن. وکانت الحکمة في کتمان موضع قبره الذي ظل سريّاً عن العامة حتي عهد الإمام الرضا (ع)، اتَّقاء شرِّ الخوارج وبني أمية. ثم قتل ابن ملجم وأحرق بالنار. وطويت صفحة ناصعة من حياة الإمام (ع) بشهادته، لتنشر علي مدي الدهر صفحات مجده وعزه، وفضائله، وتابعيه علي الهدي والإستقامة. فسلام الله عليه حين ولد في الکعبة، وحين وقع صريعاً في محراب الکوفة، وحين مضي شهيداً وشاهداً علي الظالمين، وحين أضحي راية العدالة وعلم الهدي، ومنار التقوي. وسلام الله عليه حين يبعث حيّاً، ليجعله الله ميزاناً يفصل به بين عباده، وقسيماً للجنة والنار.. وسلام علي الصدِّيقين الذين اتَّبعوا خطاه، وعلي شيعته الذين تحملوا في ولائه ما تعجز عنه الجبال الراسيات.









  1. المصدر: (ص 505).
  2. المصدر: (ص 501).
  3. في المصدر (والمبينا) والظاهر ما ذکرناه انظر: (502).
  4. في رحاب أئمة أهل البيت: (ص 255، ج 2).
  5. المصدر.
  6. المصدر.